كما أن الإنسان لا يستطيع الارتواء بمياه البحر فكذلك كل الكائنات الحية التى تعيش على اليابسة. فقط أنظر فى مطبخك عندما تنثر بعض حبات الملح على أصابع البطاطس أو شرائح الباذنجان وسوف تلاحظ أنها تبتل وأن الملح يقوم بسحب المياه من أنسجة هذه الثمار!. هذا هو الأمر فى الطبيعة وفى الترب الزراعية حيث تمسك الأملاح المياه عن النبات ولا تسمح له بامتصاصها، وإذا ما زادت تركيزات الأملاح فى الترب الزراعية فإنها تبدأ فى سحب المياه من النبات نفسه حتى يجف ويموت. ولذلك فالمقصود بالموارد المائية أنها المياه العذبة فقط دون مياه البحار وعرفت بأنها المياه التى يعتمد عليها الإنسان فى حياته وأنشطته فى الزراعة والصناعة والاستهلاك المنزلي. ونظرا لأن مياه البحار المالحة تمثل 70% من مساحة كوكب الأرض، و97% من حجم المياه على الكوكب بينما لا تمثل المياه العذبة إلا أقل من 3% أغلبها مخزن على صورة جليد فى القطبين الشمالى والجنوبى والمياه الجوفية العميقة والمستنقعات وغيرها ولا تمثل المياه السطحية العذبة للأنهار والبحيرات العذبة وحصاد الأمطار إلا أقل من 0.03% فقط بما يوضح ندرة المياه العذبة فى العالم.
وعندما يشاع وينتشر أمر أبحاث عالم جليل راحل عن زراعة القمح على مياه البحر وتنتشر على كونها أمرا واقعا بينما زراعة القمح على مياه البحار غير موجودة فى أى مكان فى العالم حتى فى أكثر الدول المتقدمة علميا. وفى أثناء عضويتى فى لجنة القمح بوزارة الزراعة ولم أجد أى طلب لتسجيل لصنف جديد من القمح يروى بمياه البحر، ثم سألت فى قسم التكنولوجيا الحيوية بالوزارة والخاص بالكائنات المعدلة وراثيا على اعتبار أن الدراسة أشاعت أنه تم نقل جين تحمل الملوحة من نبات البوص الذى ينمو على حواف البحيرات الضحلة لمياه البحر المتوسط إلى نبات القمح، فلم أجد أى طلب لتسجيل هذا الصنف أبدا وهما الجهتان الوحيدتان فى مصر لتسجيل الأصناف النباتية، وكذلك فى المنظمة الدولية للتكنولوجيا الحيوية، وبالتالى فالأمر كان مجرد فكرة بحثية تحتاج إلى أبحاث وتخلص إلى نتائج وهو مالم يتحقق.
وعلميا فإن نقل الجينات يتطلب إمكانات وأدوات علمية دقيقة للغاية وباهظة التكاليف من الصعب وجودها فى دولة نامية. كما يتطلب الأمر أولا معرفة الخريطة الجينية لنبات البوص ثم معرفة وظيفة كل جين فى المادة الوراثية وبالتالى الوصول إلى الجين المسئول عن تحمل الملوحة، وبعدها تبدأ التقنيات العلمية المتقدمة لنزع هذا الجين من المادة الوراثية وهوأمر ليس بالهين. ثم ننتقل إلى نبات القمح المستهدف نقل الجين السابق إليه، وحتمية معرفة خريطته الجينية وتحديد مكان زرع الجين الجديد إليه وتثبيته بنجاح بما يضمن ثباته وعدم خروجه أو انفصاله بكل الوسائل حتى فى أثناء هضمه فى الإنسان والحيوان والطيور والفراشات وغيرها، لأن انفلات هذا الجين يعنى اختلاطه بالجينات البشرية أو الحيوانية أو الداجنة والسمكية والحشرية بما يسبب كوارث خِلقية وربما ينتج كائنات غريبة لا نعرفها. ثم يبدأ بعد ذلك تجارب الثبات الوراثى للجينات وتكرار الزراعة وصولا إلى الأمان الحيوى ثم التسجيل والسماح بالتداول وجميعها خطوات لم تتم ولم نصل إليها فى شأن القمح الذى ينمو على مياه البحار. ويضاف إلى ذلك بأنه كثيرا ما يسلك الجين المنقول من كائن إلى آخر سلوكا مختلفا عن سلوكه فى كائنه الأصلى الذى خُلق له، فعند نقل جين وفرة إنتاج النشا من بعض أنواع البكتيريا إلى البطاطس، فإذا بالجين المنقول يتصرف عكس سلوكه الأصلى فانخفضت نسبة النشا فى البطاطس المنقول إليها الجين.
ولذلك فعندما توصل العلماء فى أمريكا إلى نقل جين تحمل البرودة الشديدة من أسماك المحيط المتجمد الشمالى إلى نبات القمح لجعله متحملا لتساقط الثلوج فى بدايات زراعته فى نوفمبر وديسمبر ويناير، والتى تؤدى إلى موت النباتات النامية بسبب تجمد المياه داخل أنسجة نباتات القمح وزيادة حجمها 10% بما يؤدى إلى تهتك الأنسجة، ومع ذلك لم تسمح النظم العالمية لا فى جميع دول الاتحاد الأوروبى أو كندا وغيرها باستخدام هذا القمح المحور جينيا فى إنتاج المخبوزات واقتصر استخدامه فى إنتاج الوقود الحيوى فقط. وفى تجارب أخرى لنمو نباتات الطماطم على مياه البحر المالحة وبنصف تركيزاتها فقط فى مياه البحر، أثمر الأمر فقط على إنتاج الطماطم البلى صغيرة الحجم جدا بسبب مسك أملاح مياه البحر للمياه عن الثمار بما لم يسمح لها بالنمو.
لو كان أمر زراعة القمح على مياه البحار صحيحا لقامت دول العالم بزراعته فى الصحارى (وفقط) وما أكثرها مثلما هى الحال فى كثرة مياه البحار والمحيطات، لأننا أيضا لن نستطيع استخدام مياه البحار لرى هذا القمح فى الترب الزراعية الخصبة وإلا فقدناها إلى الأبد بسبب تدمير أملاح مياه البحر للترب ومسكها للمياه عن النباتات وعدم صلاحيتها لزراعات حاصلات أخرى، وأيضا ما تسببه فى تملح المياه الجوفية السطحية والعميقة التى يستخدمها أهل الريف فى الشرب عبر طلمبات السحب ويستخدمها أيضا المزارعون فى الرى عند غياب أو قلة مناوبة الرى بما يوضح كارثية استخدام مياه البحر فى الري. لذلك كانت تجارب تحلية مياه البحار المالحة أكثر واقعية لإنتاج مياه صالحة للشرب وللحفاظ على حياة البشر ثم استخدامها أيضا فى الصناعة والزراعة وتوليد الطاقة، على خلاف الفشل فى استخدام المياه عالية الملوحة فى الزراعة وإنتاج الغذاء والكساء والأعلاف والإنتاج الحيوانى والداجنى والمواد الصيدلانية والعطرية.