في كل لحظةٍ، وعبْر مواقف حياتيّةٍ لا حصْرَ لها، ومن خلال مُعايشاتٍ يوميّةٍ تَظَلُّ وصايا، وحِكَمِ الأُمِّ في العقْل، والوجْدانِ رَاسخةً، ويَظلُّ ذكْراها في الخُلْد باقيًا إلى أن نُوارىَ الثَّرَى؛ فمحامدُ، وعَطَاءات، وترْبوياتِ الأُمُّ نلْتمِسُهَا في كل وقت،ٍ وحينٍ، بل، ونحصْدُ ثِمَارها، ونجْني ما قدًّمْنَاه من بِرٍّ، ولا ننْسَى مواقف حَفَرتْ في النَّفسِ علاماتٍ كاشفةً تُضِيءُ لنا الطريقَ، وتُحَصَّنُنُا من غدْرِ الأيّامِ، وأصْحَاب الشُّروُرِ؛ لنسْتكملَ مَسِيرةَ الحياةِ مع فلَذَاتِ أكْبادِنا، ونُحاولُ أن نغْرسَ فيهم ما تَرْبَّيْنا عليه من قيم ٍنبيلةٍ تحْملُ السَّماحةَ، والرضا، وتُعضّدُ طِيبةَ القلْب.
يصْعُبُ أنْ نُنُكْرَ جُمُوحَنَا في فتْرةِ الشَّبابِ تِجَاه كَثيرٍ من المَوَاقِفِ، وعنْدما تُطْرحُ علينا القضايا بمُخْتَلفِ صُوَرِهَا المجتمعيّةِ منها، وغير المجتمعيّةِ؛ فتبْدو آرائِنا حادَّةً بعض الشْيء؛ لما نمْتلكْهُ من طاقاتٍ مُتَّقدَةٍ، وهنا نتذكَّرُ الأُمَّ، وموْقِفَهَا الحَكِيمَ؛ حيث العملُ على تهْدئةِ النَّفسِ ؛ كي تسْتلهمَ الحلَّ الصَّحِيحَ، وتسْبحُ بطيفِ فكْركِ نحو الإيْجَابيّ قبل الوقوعِ في براثِنِ التفْكيرِ السْلبيّ، وما يُؤدي إليه من تصرُّفاتٍ غير محْسُوبةٍ؛ إنَّها الأُمُّ التي تمْتَلِكُ مُقوّمَاتِ الحِكْمةِ في تراكيبِ عَوَاطِفَهَا الجيّاشةِ، ونَظْرَتِهَا العَمِيقَةِ إلى بَوَاطِنِ الأُمُورِ، ومآلاتِهَا.. رحْمةُ اللهِ عليكِ يا أُمْيِّ.
في الأوقاتِ العصيبةِ قد نُصَابُ باضْطَّرابٍ يجْعَلنُا لا نُدْركُ ما التَّصْرفُ الصَّحِيحُ؟ وهنا تأتي الأُمُّ لتُهَدْئَ من الرَّوُعِ، وتُوُّجِهُ بكلِّ بسَاطةٍ أن نفْعلَ ما عليْنا، ونتْرُكُهَا لله – تعالى-؛ فهو المُدَّبرُ، والمُسَيّرُ إلى ما فيه الخير، وتحثُّنَا على الصَّلاة، والذّكرِ، والخُشُوعِ لله – تعالى-؛ كي يُخْرجِنَا من بوْتقِةِ الضَّعفِ إلى ساحة الثّقةِ به، والتَّعلْقِ بحبْله المتينِ؛ فهو بنا بصيرٌ، عليمٌ سميعٌ لخلَجَاتِ الأنْفُس، وما تُكِنُّ الصُّدُوُرُ؛ ومن ثَمّ تمرُّ المواقفُ، ونتَعلّمُ منها الدّرُوُسَ من أُمْهَاتِنَا الغَاليةِ.. رحْمةُ اللهِ عليكِ يا أُمْيِّ.
نُواجهُ في كثيرٍ من حياتِنا ما من شأْنه أن يُشَوّهَ الوعْي، ويُصِيبُنَا بالصِّراعِ الفِكْريّ تِجَاه أمورٍ قد تكون حياتيّةً، أو عقديّةً، أو سياسيّةً، أو اقتصاديّةً، أو غير ذلك مما نتعرّضُ له عبْر الفضاءِ المفْتوحِ؛ فنُسَارِعُ بطْرحِ ما نمْتلكُ من رُؤىً دون أخْذِ قِسْطٍ من التَرَّوْيّ، وهنا يأْتي دوْرُ الأُمِّ عَظِيمةُ العطاءِ؛ فتغْرِسُ فينا الفِكْرَ القويمَ، وتُشّكِلُ الوعْي السَّديدَ بمقُولةٍ خالدةٍ في النَّفسِ فحْوَاها: سِلاحُ العِلْمِ المُرْتكز إلى صِحَّةِ المْصْدرِ تثِقُ به، وما لا تعْرفهُ، أو تجْهَلهُ خُذْه من أهْلِ الاخْتِصَاصِ؛ لذا فقد ثَابرتْ، وتحمَّلتْ، وجَاهَدتْ من أجل أن نُحَصّلَ خِبْراتِ العلْمِ؛ لنمْتَلكَ الوعْي الصَّحيحَ.. رحْمةُ اللهِ عليكِ يا أُمْيِّ.
لقد عانيْنا من مواقفَ أحْدثتْ شُرُوخًا في النَّفْسِ، وصَدْعًا في الفُؤَادِ من أحِبَّةٍ، وأقاربٍ، ومضيْنَا نحو هجْرهِمْ؛ كي نتَّقي شُرُوُرَهمْ من وِجْهةِ نظرِنَا، بل، واتَّخَذْنا قرارَ الخِصَامِ، والبُعْدِ أبَدِ الدَّهرِ؛ فكان للِأُمِّ وِجْهةِ نظرٍ مُخاَلفةٍ لما اتَّخَذْناه من قراراتٍ غيْرَ صائبةٍ؛ فتقُولُ لنا بلسانِ مُبِينٍ: إن الإنسانَ لديه ما هو إيْجَابيٌّ، ونافعٌ، ولديه جوانبُ سلبيّةٌ، ومآخِذُ؛ فعليْك اغتنامَ، وتعْظيمَ الإيْجَابيٌّ، وترْكَ السَّلْبيَّ الذي يتَسَبَّبُ في خلافٍ يُؤَدْي إلى قطْعِ الأرْحامِ، أو فقْدِ أوَاصِرِ الوِصَالِ بين الأهْلِ، والأصْدِقَاءِ، وهنا نُرَاجِعُ أنْفُسَنَا، ونُعيِدُ حِسَاباتِنا؛ كي لا نفْقِدُ الصَّحْبَ، والأَحِبَّةَ.. رحْمةُ اللهِ عليكِ يا أُمْيِّ.
قد لا نرى مُسْتقبَلَنَا بعينِ البَصِيِرةِ، ونقِفُ عند عَتَبةِ الحِسَاباتِ الضَّيَّقةِ؛ فنَشْعُرُ بالنَّدمِ عن بعض اختياراتِنا بمُتَنوّعِ صُوَرِهَا، وحينئذٍ نَمُرُّ بأوقاتٍ عصِيبةٍ تُحْدِثُ فيْنا أَثَرًا غيْرَ حَمِيدٍ؛ فتبْدو مَلاَمحَ الهَمّ، والغمّ على الوجْه، وتتعَالى صيْحاتِ الاعْتِراض، والامْتِعَاضِ؛ فتأْتي الأُمُّ؛ لتُخْرِجَنَا من حيّزِ السَّلْبيَّة إلى الإيْجَابيّة بحوارٍ هادئٍ يحْملُ الإيْجَابيَّ، والْأَمَلَ، والطُّمُوَحَ في طيّاتِه؛ فتبْدو الكَلِمَاتُ عَذْبةً على الفُؤادِ مُريِحَةً للنَّفسِ مُعَمِّرِةً، ومُضِيِئَةً للعقْلِ تجْعَلُ القلْبَ يسْتشْعِرُ نُوْرَ هِدَايةِ الطَّريقِ؛ ليمْضِيَ، ويسْتكْمِلُ مَسِيرَةَ العَطَاءِ دُوْنَ تَوَقُّفٍ، ولا يلْتَفِتُ الإنْسَانُ مِنّا لما مَضَى بكُلّ تَبِعَاتِه؛ لكنّه ينْظُرُ أمَامَه؛ ليتَجنَّبَ العثَرَاتِ، ويصِلَ إلى مُبْتَغَاه؛ فمقُوُلَةُ الأُمِّ تُرَكِزُّ على أنَّ الخِيْرةَ فِيْمَا اخْتَارَهُ اللهُ – عزوجل- لك، وما أنْتَ فيه أفْضْلُ عمَّا سِوَاهُ.. رحْمةُ اللهِ عليكِ يا أُمْيِّ.
المَوَاقِفُ المُعلِّمَةُ، والمُتَّعلِّمةُ يَصْعُبُ حصْرُهَا في رحْلةِ عَطَاءِ الأُمِّ التي نَحْتفِي، ونحْتفِلُ بعيِدهَا في الواحدِ والعِشْرين من شهْر مارسٍ من كُلّ عامٍ؛ ومن ثمَّ نقول لِمَنْ أمُّهُ على قيْدِ الحياةِ هنيئًا لكَ بنبْع الحنَانِ، فاطَّمَئنَّ؛ فإن فسِياجَ المَحبّةِ يُحيِطُ بك؛ فَقَدَمُ البِرِّ على الدوامِ، وكُنْ حَافِظًا على العَهْد، والمِيْثَاقِ؛ لتَحْصُدَ ثَمَرَاتِ الخَيرِ في حَياتِك، ونقولُ لِمَنْ رَحَلَتْ رُوُحُ أمُّهِ إلى عَنَانِ السَّماءِ، وأنا مِنْهم، كُنْ بَارًّا بِدُعَائِكَ، وصَدَقَاتِكَ، وتَمَسَّكْ بفيْضِ الغرْسِ؛ لتَنْجوَ، وتنَالَ الرّضَا، ويُصْبحَ الدُّعَاءَ الَّذِى مَضَى بَاقيًا في كُلِّ ما تَنْعمُ به مِنْ خَيْرَاتٍ.. مَحَبَّتِي لِلْجَمِيعِ.
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر