يظل تحليل الناقد الفيلسوف والمؤرخ المجري جورج لوكاتش (١٨٨٥- ١٩٧١م)، لروايات السير والتر سکوت التاريخية – في تقديري – من أمتع وأعمق ما كتب عن سكوت في هذا الصدد. فبوسع القارئ أن يعاين ذلك من خلال تحليل بعض هذه الروايات، ومنها : “ويفرلي”، و “رئيس الدير”، و”خادمة بيرث الجميلة”، و” قلب مید لوثيان”، و”روب روى” ، و”أسطورة مونت روز”.
ينطلق لوكاتش من مقارنة أعمال سكوت التاريخية المذكورة وغيرها، بالرواية التاريخية المكتوبة قبلها، وخاصة الرواية الملحمية؛ فإذا كانت الملحمة تصور حياة الطبقات العليا من النبلاء والملوك، وساكني القصور، مرتكزةً على البطولة الفردية، فإن الرواية التاريخية بدأت مع سكوت عهداً جديداً،
بتصوير حياة الطبقات الدنيا من الفلاحين والأقنان (العبيد)، ومصائر الخارجين على المجتمع، المهربين، اللصوص، الجنود المحترفين، الجنود الهاربين، على الرغم من أرستقراطية
سکوت.
يرصد لوكاتش بعمق هذا التحول في الكتابة الفنية للرواية التاريخية لدى سكوت، من خلال تسليط الضوء على التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية فى فرنسا وأوروبا ، وكذلك روسيا، والتي انبثقت منها التحولات
فى الشخصية في هذه المجتمعات، ومن ثم التحول
فى طريقة رسم الشخصية الروائية.
وهنا تكمن شعرية السرد التاريخي لدى سكوت: سرد الطبقات الشعبية، سرد الحياة والأنظمة البدائية .
لقد أصبح والتر شكور – يقول لو كاتش- شاعر العصور الماضية الكبير، المصور الشعبي للتاريخ. وقد فهم “هاينه”
بوضوح هذه الصفة ورأى، أيضا، أن قوة كتابة سكوت تكمن بالضبط في تقديم الحياة الشعبية، وفي حقيقة أن الأحداث
الكبيرة الرسمية والشخصيات التاريخية الكبيرة
لم تنل مكاناً مركزياً. (انظر جورج لوكاتش: الرواية التاريخية، ترجمة د. صالح جواد الكاظم، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط، ١٩٨٦٤، ص ص ٦٧، ٦٨ ).
يكشف لوکاتش – بلماحية وذكاء – فلسفة السرد التاريخى لدى سكوت؛ فهو سرد عن تاريخ الإنسان، في ماضية وحاضره
وحتى مستقبله. إنه سرد ينطلق من التاريخ الإنساني عبر الطرح الواقعي للإنسان في كل زمان ومكان. ولعل هذا ما يبرز جليًا في رواية “روب روی” . يقول لوكاتش: ” لابد لنا أن نعجب هنا بطرح سكوت الواقعي بشكل فذ للتاريخ، بقدرته على ترجمة عناصر التغير الاقتصادية والاجتماعية الجديدة هذه إلى مصائر إنسانية، إلى سيكولوجيا متغيرة. ويكشف شعوره الشعبي الأصيل عن نفسه هنا بطريقتين؛ فمن جهة، هو يبرز هذه السمات الخاصة بالمخفوضين طبقياً بواقعية قاسية، ولاسيما في سلوك “روب روى” نفسه، ذلك السلوك المغامر على نحو رومانتيكي، وهو يختلف بذلك اختلافاً شديداً، من الناحية التاريخية، عن البساطة البدائية للزعماء
العشائريين فى الفترات السابقة، ومن جهة أخرى، فهو يصور سقوط العشائر هذا بكل البطولة الشعبية الواقعية التي ترافقه”. (لوكاتش: الرواية التاريخية، مرجع سابق، ص ص ٧٠، ٧١).
إن لوكاتش، هنا، يركز في تحليله على التحولات في الأنساق الاجتماعية والثقافية للبشر، وهو ما يجعلنا نلحظ هذا التحول في فلسفة الرواية لديه؛ فإذا كان في أعماله السابقة، من مثل: “نظرية الرواية”، و”الرواية كملحمة برجوازية” قد أشار إلى أن قد انتقلت من تصوير طبقة النبلاء والملوك، وطبقة الرجوازية، فإنه هنا في تحليله روايات سكوت التاريخية يرصد تحولات الرواية الكبرى، عبر تصويرها الطبقات الشعبية (المخفوضين طبقيا)، بلغاتهم وسلوكهم، وثقافاتهم، وتراتبهم مقارنة بغيرهم، وذلك تحول في النظر إلى القيمة الجمالية لديه، بحيث أصبحت دالة على الوجود المادي للإنسان بمختلف مستوياته. هنا التقط طرف الخيط الذي نسجه الناقد المبدع الكبير شكري عياد بقوله: “فالقيمة الجمالية تظل معنى مجردًا ما لم تستمد أسباب الحياة من الوجود المادي للإنسان، على جميع مستوياته: الفسيولوجي والبيولوجي والاجتماعي”. (د.شكري عياد: دائرة الإبداع..اللغة والإبداع، سلسلة كتابات نقدية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، ٢٠٢١، ص ٤١).