عندما كنت طبيب امتياز بمستشفى الحسين الجامعي، كان يملؤني الفخر والمجد والهيبة، نعم فقد أصبحت طبيبا يرتدي البالطو الأبيض المهيب، وأنتمي للمهنة المقدسة ذات الشأن في كل مجتمعات العالم، فأي مكانة وأي قدر؟ وكنت أسير في المستشفى بتؤدة ورزانة وعظمة ويا أرض انهدي ما عليكي قدي!!
لم يكن هذا شعوري أنا فقط وإنما شعور معظم زملائي ونحن مازلنا نفتح النافذة التي تطل على درب الطب الطويل الوعر. وكنا نملأ سكن الأطباء الامتياز في الطابق الأعلى في المستشفى بالضحكات والفرحة والسعادة، حبورا بما نحن فيه، ونتبادل أخبار الأقسام التي نعمل فيها، ونوادر الأحداث والمرضى والأطباء، إنه شعور هائل لا يعرفه إلا من كان طبيب امتياز، الذي هو بالفعل ” محدث نعمة طب “!!
وفي رمضان كان حي الحسين يتلألأ أمام المستشفى بالزينات والأضواء والزحام، فينشر حالة مفعمة بالروحانية والنورانية في وجدان كل من يلقي النظرة عليه. ولم يكن يفسد ذلك وجود حي الباطنية خلف المستشفى في تعادل واتزان مجتمعي عجيب ما بين ما هو أمام المستشفى وما هو خلفها، وكانت الباطنية كما نسميها هي أشهر أحياء مصر في تجارة المخدرات بكافة أنواعها وأشكالها، والذي قامت الشرطة لاحقا باقتحامه وتصفيته بعد معارك عسكرية عالمية ثالثة شابت من هولها الولدان في عهد اللواء أحمد رشدي الذي حارب الفساد بكل أشكاله في مصر المحروسة، فكان أفضل وزير داخلية ورد في تاريخ أرض الكنانة بلا شك، حتى تم خلعه، والدوام لله وحده.
وكنا في أكثر الليالي الرمضانية نذهب إلى حي الحسين، لنستنشق رائحة رمضان، وعبق الزمن القديم، وكان من لزوم هذه الجولات الأساسية هو المرور على مقهى الفيشاوي الشهير، والذي يحتوي على مقاعد وموائد تعود لعصر المماليك والصعاليك!! ومن أعجب ما كان يقدمه هذا المقهى هو (الشاي على ميه بيضه)! وهو سر أسراره في ذلك الوقت، وكان عبارة عن كوب من الشاي ترى فيه طبقة من الشاي غارقة في قاع الكوب، وفوقها ماء شفاف رائق حتى أعلى الكوب! وكان السؤال المحير هنا هو كيف غطست حبيات الشاي في قاع الكوب ورقدت في القاع هكذا دون أن تتلون المياه فوقها ؟! حاجه غريبه فعلا. والأهم من ذلك هو طعمه المميز العجيب بعد تركه لدقائق ثم تقليبه ليختلط الشاي الغريق بالماء ويصبح كباية شاي معتبرة رائعة حبذا بعد وضع عود من النعناع فيها .. ويا سلام على العظمة! كان الطعم مذهل بالفعل، ويبدو أن حبيبات الشاي المدفونة لبعض الوقت لها تفاعل كيمائي غامض يجعل الشاي مختلفا هكذا.
وكان من الطبيعي أن أحاول سبر غور سر هذا الكوب العجيب، وبالطبع فشلت محاولاتي لمعرفة السر الدفين من أسطوات المقهى الذين يقدمون الشاي والقهوة وغيره، فلا أحد يمكنه أن يفشي واحدا من أهم أسرار المقهى وإلا وقع تحت طائلة عقاب المعلم الشرير !!
ولكن هل يجعلني هذا الفشل في معرفة السر أسكت عنه ؟ لا والله، وقررت أن أحسم الأمر وأنهيه تماما ! فقمت بالتركيز على معلم القهوة وهو يجلس على مقعده المرتفع خلف البنك بجوار المائدة الطويلة التي يجري عليها إعداد المشروبات خلف حاجز خشبي يخفي ما وراءه. وكان هناك أسطى في مقتبل العمر يقوم بإعداد المشروبات والطلبات للزبائن، فرحت أراقب المكان من بعيد حتى حانت اللحظة الحاسمة التي أنتظرها، وهي قيام المعلم من مكانه خلف البنك، وتركه لمائدة الإعداد دون رقيب، فانطلقت من فوري كالسهم للأسطى وألقيت تحت ناظريه خمسة جنيهات كاملة، أي والله خمسة، وكانت في ذلك الوقت ثروة هائلة تشتري بطه وفرختين، وقلت له بسرعة: اعملي هنا كباية شاي على ميه بيضه قبل المعلم ما يرجع، فأدرك قصدي على الفور وراح ينظر هنا وهناك ثم دس الجنيهات الخمسة في جيبه، وبدأ في إعداد الكوب وكشف السر، فكان يضع الشاي الجاف في قاع الكوب الفارغ أولا ثم يضع فوقه طبقة من السكر حسب الطلب، ثم يقوم بتقطير الماء المغلي على ملعقة صغيرة فوق فوهة الكوب، بحيث يبدأ الماء المغلي يقع نقطة نقطة بهدوء فوق طبقات الشاي والسكر التي لا تهتز ولا تتحرك ولا تختلط به حتى يمتلئ الكوب ويصبح على ميه بيضا ! ساعتها شعرت بانشراح عجيب يجعلني من أسعد خلق الله. وعدت بعدها لسكن الأطباء الامتياز المبجلين، واستعرضت معرفتي بالسر الخطير أمام زملائي، وأعددت كوبا من الشاي على ميه بيضة دون أن يراني أحد، فأصابتهم الدهشة وصفقوا من العجب العجاب!!
ومازلت حتى الآن أقوم بإعداد هذا الشاي لنفسي لأتذكر دائما معه قهوة الفيشاوي، والخمسة جنيه، ورمضان، وسكن الامتياز، وأجمل سنوات العمر …………….
