ليس جديدا علينا أن ينقلب اليهود على الاتفاقات والتعهدات التي وقعوها، فهم قوم خداع وخيانة، هكذا أنبأنا القرآن الكريم من أخبارهم، لقد خانوا الله ورسوله من قبل فأمكن منهم، وأخبرنا الله جل شأنه عن طباع الغدر والخيانة فيهم كأنه يحدثنا عن أفعالهم اليوم، فقال تعالى: “أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم”، وقال: “فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية”، وقال: “ولا تزال تطلع على خائنة منهم”.
والعيب فيما يفعله اليهود اليوم من تراجع وتلاعب بالاتفاقات ليس عيبهم، وإنما عيب من صدقهم ووثق فيهم واطمأن إلى عهودهم ومواثيقهم، بعد أن سمع تحذير الله للمؤمنين من خياناتهم وألاعيبهم الدنيئة، وبعد أن قرأ قول الله تعالى: “أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ماعقلوه وهم يعلمون”.
العيب فيمن مزقوا الجبهة العربية المساندة للحق الفلسطيني وأضعفوها، وانحرفوا عن مفهوم (الأمة الواحدة) التي هي “كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى”، العيب فيمن شتتوا الوعي العربي والإسلامي ليسوغوا لأنفسهم التعاون مع العدو على حساب الأخ والصديق، والعيب فيمن كرسوا الانقسام الفلسطيني، وسولت لهم أنفسهم أن يهاجموا المقاومة وهي في ميدان الحرب، وينالوا من شرفها وسمعتها لإرضاء العدو، ويتعجلوا هزيمتها وإسقاطها من أجل الحصول على السلطة في غزة.
إن الاستعلاء الصهيوني الذي نراه اليوم في تصريحات بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يسرائيل كاتس لا يعود إلى قوة إسرائيل الذاتية، وإنما إلى الحليف الأمريكي والأوروبي، والأهم من ذلك يعود إلى ضعف المعسكر الفلسطيني وانقسامه، وضعف المعسكر العربي والإسلامي والدولي المساند له، وقد كان قادرا ذات يوم على ردع العدوان وإيقافه بكلمة واحدة جامعة، كلمة تستند إلى قوة حقيقية قادرة وإرادة صلبة، وليست كلمة جوفاء تطلق كدخان في الهواء، ثم تختفي رويدا رويدا ويختفي أثرها، فيكون ضررها أكثر من نفعها.
لو كان في هذه الأمة (الكبيرة) بقية من روح العزة والكرامة لوقفت صفا واحدا أمام غطرسة ترامب حين فكر في السيطرة على غزة وتهجير أهلها، ولوقفت صفا واحدا أمام عربدة نتنياهو حين قرر التراجع عن اتفاق الهدنة واستئناف العدوان والامتناع عن الدخول إلى مفاوضات المرحلة الثانية كما يقضي الاتفاق، ولكانت عودته إلى العدوان كافية لأن تنسحب الدول العربية معا، ودفعة واحدة، من كل الاتفاقات والعهود التى وقعتها مع إسرائيل تحت لافتة خادعة عن (السلام الإستراتيجي)، أو (السلام الإبراهيمي)، إذ كيف يكون هناك سلام بهذا الشكل بينما يعمل الصهاينة جهارا نهارا من أجل إشعال الحروب وقتل الشعوب وتهجير أصحاب الأرض والتوسع الإقليمي على حساب الدول المجاورة لإقامة إسرائيل الكبرى، التي رفع نتنياهو خريطتها في الأمم المتحدة دون أن يجد من يردعه؟
لم يعد خيار(السلام الإسترتيجي) له معنى في ظل وجود مندوب صهيوني فاجر في البيت الأبيض لايرى لديه وقتا ليخدعنا بكلام معسول عن (وساطة أمريكية نزيهة)، ولا عن (حل وسط يرضي جميع الأطراف)، وإنما يقول صراحة إنه لا حل إلا بتهجير الفلسطينيين إلى الدول المجاورة وتحويل غزة إلى منتجع سياحي تسيطر عليه أمريكا، ومن يرفض ذلك فالعقوبات جاهزة، ويقول صراحة إنه يدعم بشكل كامل استئناف إسرائيل عملياتها العسكرية في غزة، وهو ما يعني أنه شريك أساسي في العدوان، وأن الولايات المتحدة لم تعد راغبة في التخفي وراء الشعارات الزائفة، معتبرة أن الوقت قد حان لتكشف الحقائق كاملة دون لف أو دوران.
لقد شبعوا هم من خداعهم لنا، وبقي أن نشبع نحن أيضا من خداعهم ونقول لهم (كفى)، فمن يقولها، ومتى يقولها؟
لقد وضعنا فجور الثنائي ترامب ونتنياهو في اختبار لا يحتمل المواقف المائعة وأنصاف الحلول، ومخططاتهما ومؤامراتهما صارت واضحة لا تحتاج لشرح، وكلنا يعرف أنه لو انكسرت المقاومة اليوم وخرجت مهزومة، فسوف يدخل الجميع في دائرة الانكسار والانهزام، لا استثناء لأحد، وستخرج إسرائيل من المواجهة مستأسدة على كل جيرانها، وعلى المنطقة بأسرها، لتحقق هدفها المعلن بـ (تغيير الشرق الأوسط)، وسيكون ذلك بالطبع على حساب القادة الحقيقيين للمنطقة، الذين يحفظون لها الأمن والسلام والاستقرار.
مرحليا تريد إسرائيل أن تسترد أسراها من غزة بالمفاوضات (تحت النار)، أي وهي تضرب وتقصف وتقتل المدنيين إلى أن تستسلم المقاومة وترفع الراية البيضاء وتوافق على تسليم الأسرى، ثم بعد أن تحصل على أسراها تستكمل العدوان حتى تتأكد من القضاء على المقاومة وأهل غزة جميعا، فلم يعد هناك بديل ثالث؛ إما القتل وإما الطرد والتهجير، كي تخلو الأرض لتحقيق خطة ترامب الجهنمية، بينما ترى المقاومة أن الأفضل لها أن تواجه العدوان والأسرى في يدها بدلا من أن تواجهه وليس في يدها ورقة ضغط واحدة، أو أن تبدأ مفاوضات المرحلة الثانية من أجل الوصول إلى اتفاق ملزم، يضمن تنفيذ الخطة المصرية لانسحاب إسرائيلي حقيقي كامل من غزة وإعادة تعميرها دون تهجير مقابل إطلاق سراح الأسرى.
وعلى المستوى الإستراتيجي ترفض إسرائيل الخطة المصرية للانسحاب من غزة وإعادة الإعمار، وترفض الانخراط في مفاوضات المرحلة الثانية لإنهاء الحرب وتبادل الأسرى، وترفض حل الدولتين واتفاقات أوسلو والمبادرة العربية للسلام، وتجاهر بإعداد الخطط لضم الضفة الغربية وتسربع الاستيطان فيها، ومصادرة المزيد من أراضي الفلسطينيين ومنازلهم في القدس المحتلة، وفضلا عن ذلك تقوم باحتلال أجزاء من أراضي سوريا ولبنان، وتتحرش علنا بمصر والأردن والسعودية.
