ما نعيشه اليوم من تقدم مذهل، في استخدام وتوظيف الآلة، بات له أثر بالغ على الوجدان البشري، وبصورة أكثر تحديدًا، تتأثر العواطف جراء ضعف الاهتمام بها؛ حيث يبدو التمركز حول التقنية ومفرزاتها اللحظية، التي نرصدها في التطبيقات الذكية، والنتاج الذي يبلغ مستويات الرفاهية، في كافة المجالات الحياتية، والعلمية، والعملية، على حد سواء، وهذا ما يجعلنا لا نركز على الجوانب، التي تسبب سرور النفس، أو ننتبه لما قد يضير بها، أو نلتفت لكل ما شأنه يحدث ألمًا في الوجدان.
طبيعة المكون الوجدان المعقدة، تتطلب منا الاهتمام بالعاطفة، والعمل على تغذيتها بصورة مستدامة، وهنا نعول على الفهم العميق لطبيعة هذا المكون، الذي يتأثر بالعديد من العوامل؛ فهناك طبيعة تؤثر فيه، وهناك متغيرات حياتية تسهم في زيادة التفاعل، أو ضعفه؛ لذا باتت رعاية الوجدان، من خلال تغذيته بمشرب العاطفة، وفيض المشاعر الإيجابية، عامل رئيس في تشكيل وبناء إنسان سوي، يؤثر في محيطه، ويضيف له، في ضوء ما يمتلكه من قدرات، ولمسات نوعية.
العاطفة ركن في الوجدان، مرتبطة بالفطرة، وهنا نشير إلى أن الإنسان وفق طبيعته، يولد ويمتلك استعدادات ودوافع تجاه محيطه؛ فيتوافر لديه قدرٌ من الحب، والكره، بما يدعونا إلى أن نغذي ما لديه من حب؛ كي يقلل من معدلات الكره، وبدون شك هنالك من الممارسات الإيجابية التي نكسبها له؛ بما يعمل على تعزيز منابع الخير لدى هذا الإنسان؛ فيصبح معطاءً، ولديه ثوابت ومعايير، تحثه وتحضه دومًا على دروب الفضيلة؛ ومن ثم نضيء له الطريق القويم، ونغلق في وجهه، طرائق الضلال والانحراف.
الخطورة هنا تكمن في أن يتحول الإنسان منا لمثيل، أو شبيه، أو أنموذجًا للآلة، التي تخلو من المشاعر، وهذا ما يقلقنا ويؤرقنا في مضاجعنا، بل ويجعلنا نفقد سبل رفع المعنويات لدى الأبناء؛ فلا نجد مفتاحًا لبوابة السرور، أو نستكشف مواطن القصور، أو نرصد الألم، الذي يحتاج للعلاج والمتابعة، وهنا نواجه خطرًا لا يستهان به؛ حيث صعوبة العمل الممنهج تجاه تعديل السلوك؛ ومن ثم نقف عاجزين، أو حائرين، أمام الكيان البشري؛ حيث نفشل في إيجاد الآليات والطرائق والمداخل الصحيحة في التعامل معه.
قد نرى نتاجًا لا بأس به من الأبناء؛ لكن يفتقد للروح، كونه مغلفًا بإطار من المادية البحتة، التي تستبعد مقومات وخصائص الطبيعة الإنسانية، وخاصة ما يتعلق بمشاعرها وعواطفها؛ فليس هناك متسعًا لهذا الجانب، الذي يشكل ماهية وفلسفة البقاء؛ فمن يحمل غايات لا بد أن تكون متكاملة في كليتها؛ إذ يتطلب أن تشمل في مكنونها المعرفة والأداء والوجدان؛ كي نرى استدامة في العطاء، من قبل أفضل مخلوق على الأرض.
غياب العاطفة لدى الأبناء لها مخاطر جمة، يأتي في مقدمتها تلاشي الاهتمام بالمشاعر؛ فليس هناك أهمية تذكر للسعادة، والأخذ بأسباب السرور؛ فيصبح الوجدان فقيرًا، بل متعطشًا للمشاعر السلبية؛ ومن ثم ينعطف بسهولة تجاه سُبل الضلال، ويمكن استغلاله بأقل جهد من الحيل، وهذا سببه الرئيس، ضعف الاهتمام بتغذية وجدان الأبناء، بالمقومات التي تروي العاطفة لديهم، وأيضًا ندرة توافر العوامل التي تهيئ فتح أبواب السعادة أمامهم؛ فتبدو انفعالاتهم غير مبررة، ومداخل الأسى لديهم منفتحة على مصراعيها؛ فنشاهد بأم أعيننا التعاسة تسيطر على نوازع فلذات الأكباد.
عندما نرى الأبن يتراجع، ويتخاذل، ويشعر بانتكاسةٍ، ويحاول أن يتقوقع حول ذاته، حينئذ ندرك أن السبب الرئيس وراء ذلك، يمكن في غياب العاطفة، أو فقدان الجانب الإيجابي منها؛ لأن طوق المادية، هنا يفوق الجانب الوجداني؛ ومن ثم تتسع الفجوة؛ فتجد الاهتمامات مرتكزة على توجيه الطاقات في الإطار غير القويم، أو حتى في ساحة العمل الجافة، التي تخلو تمامًا من المشاعر، ويكسوها النفعية المحددة بأهداف بعينها، وبالطبع لا تجد فيها قوس منزع للعاطفة المشكلة للوجدان.
الشعور الذي يسيطر على الأبناء تجاه الرعاية والاهتمام، يصبح ضعيفًا عند غياب العاطفة، وإخراجها من حساباتهم المعتادة، وهذا يشكل خطرًا نرصد أثره المباشر في صعوبة تحمل المسئولية، والضغوط، وسرعة الفشل، والهروب من المواقف، وضعف إدارة الذات؛ فلا تجد العود يشتد بعد المرور بالعاصفة، بل تشاهد انكسارًا وافتقارًا للأمل والطموح، كما تلاحظ نوعًا من البلادة والسلبية، تجاه العديد من الأحداث، التي من المفترض أن تستثير الهمم، وتعلى من إرادة التحدي.
المبادأة والإيجابية من قبل رعاة الأبناء، أضحت ضرورة لا مناص عنها؛ كي نستطيع أن ننتشل فلذات الأكباد من براثن الفقدان المعنوي؛ فيصبح الفرد لديه رغبة في المشاركة، ويمكنه أن ينغمس مع الآخرين، في مهام اجتماعية متنوعة، داخل نطاق الأسرة الصغيرة، وخارجها، وهنا ينبغي أن نهتم بتعزيز لغة الحوار والمناقشة، مع الأبناء، ونتيح لهم فرص غير متناهية؛ كي يعبروا عن أنفسهم، وما يدور في خلدهم من أفكار، وأطروحات، ورؤى؛ ومن ثم تصير الإيجابية في ثياب الوظيفية، التي نشاهدها في حمية الشباب، الذي يغار على ذويه، ويحب وطنه، ويدافع عن مقدراته ويصونها.
المواقف الصعبة والشائكة، تُعد مدخلًا رئيسًا لتعزيز وجدان الأبناء؛ حيث ينبغي أن ندربهم على التفكير أثناء حل المشكلات، والتصدي للقضايا بمتنوعها؛ ومن ثم نعمل على صقل مهارات التفكير لديهم، بصورة جماعية وفردية، وبناءً على ذلك لا يتوقفون عن المحاولة والتكرار؛ بغية الوصول لمستهدفاتهم المشروعة، وهنا يأتي دور التغذية الراجعة؛ لتصحيح المسار، وأهمية التعزيز؛ لتحفيز الجهود الفكرية منها والمادية على السواء، ولا يخفى علينا أن مشاعر الأمل والطموح، تزداد بخلق الثقة في أنفسهم؛ فالأماني تدرك بدأب العمل، والجهد المتواصل، والحلم، والمثابرة، والتحمل.
كي نعزز العاطفة لدى الأبناء، لابد من أن يسود الشعور لديهم تجاه قيم نبيلة، منها الحب، والعدل، والخير، والسلام، والجمال، والإعمار، والطموح، والأمل؛ ومن ثم تتقد المشاعر الإيجابية في مجملها، وتضعف المشاعر السلبية وتذبل؛ رغم قسوة الظروف، وصعوبة المواقف في بعض الأوقات، وهنا نؤكد على أهمية تعضيد الأواصر بين الأبناء، وغرس قيمة المودة تجاه الآخرين؛ فهذا يقتل مزاعم التفرقة والفراق، سواءً أكان بسبب أم بغير مسبب معلوم.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.
