في ظل التحديات المتزايدة التي تعصف بالقطاع الصحي في مصر، تتصاعد أزمة هجرة الأطباء باعتبارها إحدى أخطر القضايا التي تهدد استقرار المنظومة الصحية وفعاليتها على المدى القريب والبعيد. فبعد سنوات طويلة من الدراسة الجامعية، يخوض الطبيب المصري رحلة شاقة تمتد من أربع إلى خمس سنوات بعد التخرج للحصول على التخصص، ليجد في نهاية الطريق أن أفضل ما يمكن تحقيقه بات خارج حدود الوطن.
وتتجلى خطورة هذه الظاهرة في أن الدول المستقبلة للأطباء، مثل دول الخليج العربي، لم تعد تعتمد على استقدام الممارسين العامين فحسب، بل وضعت شروطًا أكثر صرامة تقتصر على استقطاب الكفاءات الطبية المؤهلة، ممن يحملون شهادات تخصصية وخبرة عملية لا تقل عن عدة سنوات بعد الماجستير، وغالبًا ما يُطلب منهم قبول توصيف وظيفي أدنى، مع اجتياز اختبارات معادلة مهنية معقدة.
لكن في المقابل، يحظى الطبيب هناك ببيئة عمل داعمة، تشمل فرصًا متقدمة للتدريب والتطوير المهني، وحضور مؤتمرات وورش عمل عالمية، فضلاً عن توازن أفضل بين الحياة المهنية والشخصية، مما يتيح له قضاء وقت كافٍ مع أسرته، وهو ما لا يتوافر بالدرجة نفسها في الداخل. وهكذا تخسر مصر كوادرها المؤهلة، التي كان يفترض أن تساهم في تأهيل الأجيال الجديدة من الأطباء والإشراف عليهم أكاديميًا ومهنيًا.
هذه الهجرة المستمرة تُحدث فجوة متنامية داخل المستشفيات والمؤسسات التعليمية، حيث يواجه صغار الأطباء أزمة ندرة المشرفين والمدربين من ذوي الكفاءة، وهو ما ينعكس مباشرة على جودة التدريب والمخرجات التعليمية، ويمثل حلقة جديدة في دائرة مفرغة من الضعف المؤسسي والمهني.
ورغم أن عدد الأطباء المقيدين بنقابة الأطباء المصرية يبلغ نحو 350 ألف طبيب، فإن أكثر من نصف هذا العدد إما هاجر للعمل بالخارج أو خرج من المهنة كليًا. وبحسب تقديرات رسمية، فإن عمل هؤلاء جميعًا داخل مصر كان كفيلًا برفع معدل الأطباء لكل ألف مواطن إلى المستويات العالمية، وهو ما يؤكد أن جوهر الأزمة لا يكمن في قلة الخريجين بل في ضعف القدرة على الحفاظ على الكفاءات داخل المنظومة.
ويحذر خبراء من أن الاعتماد على زيادة أعداد خريجي كليات الطب ليس حلاً جذريًا، بل ينبغي أن يكون الهدف الرئيسي هو الحفاظ على الكوادر الطبية من خلال توفير بيئة عمل آمنة ومحفزة. ويشمل ذلك تحسين الأجور، وتحديد ساعات عمل عادلة، وتوفير مظلة تأمينية مهنية وأمنية، والارتقاء بمستوى التقدير المعنوي للطبيب.
حتى سن القوانين الهادفة للحد من سفر الأطباء لم ينجح في معالجة الأزمة، إذ دفع ذلك كثيرًا من الأطباء إلى الانقطاع عن العمل، ما أدى إلى فصلهم إداريًا، ثم سافروا لاحقًا بشكل فردي. وهذا يثبت أن القضية ليست في العدد، بل في جودة الإدارة وتوظيف الموارد البشرية على نحو عادل ومنهجي يخدم الصحة العامة.
وفي ظل هذا السياق، لا يمكن إغفال معضلة نقص عدد أسرّة المستشفيات، وخصوصًا أسرّة الرعاية المركزة، إذ تعاني مصر من نقص في الاسره مقارنة بالمعدلات العالمية، مما يُضعف من قدرتها على مواجهة الكوارث الصحية الكبرى مثل الجوائح أو النزاعات المسلحة، والتي تتطلب بالضرورة ايضا مضاعفة أعداد الأطباء والمرافق الطبية معًا.
إن معالجة أزمة هجرة الأطباء لا تحتمل التأجيل، وتستلزم خطة وطنية شاملة تضع في اعتبارها ليس فقط الاحتفاظ بالكفاءات، بل تمكينها وتوظيفها بالشكل الأمثل لضمان استدامة النظام الصحي وتعزيز الأمن الصحي القومي.
د.احمد مبروك الشيخ
عضو مجلس النقابه العامة للاطباء
مقرر لجنة الاعلام والنشر