في شهر سبتمبر عام 2008 اتصل بي أحد اصدقائي وكان يعمل استشاريا لجراحة المخ والأعصاب بالمستشفى العسكري بخميس مشيط بالسعودية، ليطلب مني أن اقوم بعمله في المستشفى لمدة ثلاثة أشهر حتى عودته من أجازته السنوية والتي سيقوم فيها بالزواج لثالث مرة !! وافقت وتمت الاجراءات في لمح البصر في يوم واحد !!
وسافرت … ووجدت المستشفى من طابقين فقط من الحوائط مسبقة الصنع، أي يمكن تفكيكها وتركيبها مرة أخرى، وكانت إمكانياتها متواضعة مقارنة بإمكانيات المستشفيات العسكرية الكبيرة التي أعرفها بالسعودية. وبجوار المستشفى كانت تربض قاعدة خميس مشيط الجوية بشحمها ولحمها، يعني شيء مطمئن جدا !! ويشرح القلب !!
وعلمت بعد السؤال عن أصل اسم خميس مشيط أن خميس هو نسبة ليوم الخميس التي يقام فيه السوق الأسبوعي في هذا المكان، ومشيط نسبة لشيخ القبيلة هنا واسمه الشيخ مشيط بن سالم.
ولكن للأمانة فقد كانت الإقامة ممتازة بالنسبة للاستشاريين، فيلا صغيرة بخدمة فندقية كاملة 5 نحوم ونص على رأي الأغنية!! وقمت بالتقاط بعض الصور كعادتي في بتسجيل كل ما في الحاضر ويمكن أن يكون ذكريات في المستقبل !! وكأني كنت أعيش الحاضر أجهز فيه للمستقبل بما فيها الذكريات !! ولدي صور لكل ما مررت به من أحداث تقريبا بالتفصيل الممل ! حاجة غريبه فعلا !
المهم كان العمل المستشفى يسير بصورة روتينيه ويساعدني أثنان من الأخصايين. وقبل عودتي للقاهرة بأسابيع قليلة تلقيت مكالمة تليفونية من مدير المستشفى في الثانية بعد منتصف الليل ويطلب مني بأدب شديد الحضور لقسم الطوارئ فورا لأمر هام. فذهبت بسرعة لأستطلع ماذا هناك، فوجدت مدير المستشفى وعددا لا بأس به من أقارب مريضة، وعلى رأسهم طيار بدرجة عقيد !! وهي رتبة هائلة في السعودية. واختصارا للموضوع فإن والدة العقيد كانت تشكو من آلام بالظهر منذ أسابيع ولم يجد معها علاج طبي بأنواعه، حتى حدث لها فجأة شلل بالقدم البمني منذ ساعات، فأسرع ابنها وأحضرها للمستشفى منزعجا أيما انزعاج. فحصت المريضة فوجدت علامات واضحة لسقوط قدم، في الغالب نتيجة لانزلاق عضروفي ضاغط على العصب المسؤول عن حركة القدم. وأظهر فحص الرنين المغناطيسي على الفقرات التي تم عمله بسرعة تأكيدا للتشخيص، وكان من الواضح أن الحالة تحتاج لتدخل جراحي عاجل بصورة طارئة في محاولة لعلاج شلل القدم لكي لا يصبح شللا مستديما إذا تأخر الوقت، نتيجة تلف العصب.
وجلست مع مدير المستشفى والعقيد ومرافقيهم (الذي لا أذكر أسمه للأسف الشديد وهو ما يحزنني بالفعل، وربما أجده يوما ضمن الأوراق القديمة) وشرحت تفاصيل المرض والعلاج الجراحي اللازم فورا. غير أن العقيد قام بعدة اتصالات بهاتفه ثم طلب مني أن أمهله حتى الصباح لحين وصول أخيه الأكبر من الرياض بطائرة عسكرية طبية، وهو لواء بالقوات الجوية !! وبالفعل كتبت العلاج الطبي المساعد للمريضة، حتى وصل اللواء في الساعة الثامنة صباحا، وعقد معي اجتماعا بحضور أخيه ومدير المستشفى وبعض الأشخاص الذين لم أتبين من هم !! وشرحت الموضوع بالتفصيل، وطلبت من اللواء نقل المريضة فورا للمستشفى العسكري بالرياض لإجراء العملية هناك. فسألني لماذا اذن كنت ستقوم بالعملية هنا طالما تحتاج حالة الوالدة للنقل ؟! فأجبته دون تردد أن الحالة حرجة، وأن الوقت قد طال منذ حدوث الشلل، ومرت أكثر من عشرة ساعات، وبالتالي يقل احتمال تعافي القدم من الشلل بعد العملية، بل ويمكن أن يكون مستبعدا تماما. وإذا أجريت أنا العملية هنا ولم تتحسن المريضة، ستجد ألف طبيب وجهبذ وخبير من أساطين الإفتاء الطبي، يقولون -لأهمية المريضة- أنها لم تتحسن بسبب العملية الفاشلة، وكان يجب على الطبيب المعالج أن يفعل كذا وكذا وكذا. لذلك أطلب أن تنقل المريضة للرياض في المستشفى العسكري الكبير، فمهما كانت نتيجة العملية هناك فسوف تكون مقبولة. وقد أجريت نفس هذه العملية هنا في المستشفى خلال الشهرين الماضيين لعدد غير قليل من مرضى الإنزلاق الغضروفي وكانت كلها ناجحة، ولكن هذه المريضة لها وضع خاص يجعلني أفكر كثيرا قبل أي تدخل بخبرتي كجراح مخ وأعصاب.
وإزاء ذلك استأذن اللواء لإجراء اتصالات، وخرج من الغرفة وبعد أقل من نصف ساعة حتى عاد ليقول: هل حضرتك الدكتور توفيق حلمي الذي عمل لفترة في مستشفى الرياض المركزي منذ عشرين عاما تقريبا؟ قلت نعم ( وتعجبت من معرفته بذلك!) فقال تفضل يا دكتور لا داعي للنقل، قم بإجراء العملية فورا كما تريد. ورغم ذلك حاولت التهرب ولكن كان قد سبق السيف العزل، وسدت الطرقات، ويبدو أنه سأل عدة جهات وأرضته الإجابة، فلم يكن هناك بد مما ليس منه بد، وتوكلت على الله الشافي المعافي مستعينا به وليكن ما يكون.
وتم نقل المريضة للعمليات ( وكانت مجهزة للعملية منذ دخولها المستشفى)، وقمت بإجراء العملية واستأصلت الغضروف المنزلق ميكروسكوبيا بعملية بالغة الدقة بفتح بسيط لا يزيد عن طول عقلة الأصبع ولي فيها خبرة كبيرة على مدى السنوات، ووجدت العصب في حالة يرثى لها نتيجة الضغط الحاد عليه لساعات. وخرجت من باب العمليات لأجد أبناء المريضة وغيرهم في الانتظار خارجها وكلهم يتطلعون إلى وجهي !! فأبتسمت وأخبرتهم بما تم عمله وقلت اننا سنعرف حالة حركة القدم بعد إفاقة المريضة.
وخرجت للمنزل للاستراحة والنوم بعد ليلة شاقة عصيبة، وعدت للمستشفى في وقت العصر تقريبا، وتوجهت مع المساعدين للمرور على المريضة، فوجدت حول سريرها بغرفتها أبناءها وبناتها وعددهم يزيد عن عشرة، ولولا أن الغرفة متسعة لما استوعبتهم !!! وسألتهم ما هي الأخبار هل حركت قدمها، فقال ابنها لم نفعل أي شيء ولا سألناها أن تفعل أي شيء حتى تأتي أنت. فقمت بتحية المريضة ببعض كلمات مجاملة وقلت لها أستأذنك أن أرفع الغطاء عن قدمك لأرى ما هو شكل الجنة تحتها! فابتسمت بل وضحكت (إيش هذا يا دكتور)، وكشفت قدمها وسألتها أن تحاول تحريك قدمها، فإذا بها لدهشتي الشديدة تحرك القدم لأعلى وأسفل بقوة كاملة ! وهنا حدث زلزال في الغرفة لم أر مثله في حياتي المهنية وغير المهنية، إذ انطلق كل من في الغرفة يقبلون قدمها ورأسها وفراشها وسريرها والكل يصيح ويجهش بالبكاء. انسحبت فورا من الغرفة وقمت بكتابة العلاج اللازم وفي عيني أيضا بعض الدموع لهذا المشهد المهيب العجيب. وكنت أسأل نفسي ماذا فعلت هذه السيدة حتى يحبها من أنجبتهم كل هذا الحب ؟! وماذا كانوا سيفعلون بي إذا لم تحرك قدمها ؟! يا ساتر يارب.
المهم خرجت المريضة من المستشفى بعد يومين، وكانت قد استعادت قدرتها على المشي بصورة سليمة وكاملة. فهل انتهى الأمر عند ذلك؟ لا والله لم ينته عند ذلك، فقد زارني في الفيلا ابنها العقيد عدة مرات محملا بالهدايا الثمينة لي ولزوجتي وأبنائي، وحاولت كثيرا أن أفهمة أنني لم أقم بعمل خارق أو شيء يستحق كل هذا، والحمد لله وحده إنما هو عملي الذي أمارسه هنا وفي القاهرة، إلا أنه لم يكن يرد وكأنه لا يسمعني ! وقبل سفري بأسبوع تقريبا استدعاني مدير المستشفى ومعه رئيس شؤون الموظفين وعرضا علي عقدا سنويا بالمستشفى بمقابل ومزايا أبعد من الخيال لا يرفضهم عاقل، ولكني لم أكن عاقلا في هذا الشأن، وأخبرتهم أنني لا أقايض عملي كأستاذ في الجامعة في القاهرة بأي شيء، وأنني أحضر للمملكة كل سنتين أو ثلاثة لأشهر قليلة وكأني أقوم بالسياحة في أماكن متعددة! وبالقطع كان من الأسباب القوية، أنني لو قبلت العرض سيتم الاستغناء عن صديقي المزواج الذي جئت لأغطي مكانه خلال أجازته !! وهو ما لا يمكن أن أفعله أبدأ.
المهم جاء يوم الرحيل، وكنت في الفيلا أرتب حقائبي منتظرا سيارة المستشفى التي ستقلني لمطار أبها الذي يبعد حوالي 30 كيلو متر، ومنه لمطار جدة ثم لمطار القاهرة، فليس في خميس مشيط مطار مدني. ولكني فوجئت بالعقيد طيار يطرق باب الفيلا ومعه سيارة كبيرة وسألني أين حقائبك؟ فأشرت لها في مدخل المنزل فإذا به يمد يديه ليحمل الحقائب للسيارة! وحاولت منعه دون جدوى، ووضع الحقائب في السيارة وأخذني للمطار، وقام ومعه أحد ضباط المطار بكل إجراءت السفر، وتأكد أن مقعدى في الطائرة في درجة رجال الأعمال حتى القاهرة، واصطحبني حتى باب الطائرة , وقبل صعودي قدم لي الكارت الخاص به، وفيه جميع أرقام الاتصال به العامة والخاصة، ورجاني أن أتصل به دون تردد في أي شأن من الشؤون بالمملكة أو حتى خارجها، حتى ولو كان بسيطا.
وعدت للقاهرة بعد هذه الرحلة العجيبة الملحمية، محملا بأهم ما في الرحلة كلها، وهي الذكريات التي أكتبها الآن، من بين آلاف الذكريات التي أحملها، والتي لا تنتهي لطبيب مصري عجيب عاش ألف سنة على الأقل !!
في مستشفى خميس مشيط العسكري بالسعودية شهدت أروع ملحمة في حياني للبر بالأم، لأبناء وبنات استحقوا هذه الأم، واستحقوا أيضا أن أذكر قصتهم هنا، ربما يقرؤها من كان طرفا في الأحداث ويتذكرها معي.
معذرة لطول المقال، ولكني رأيت أنه يستحق، وسلامي لخميس مشيط، ومستشفى خميس مشيط، وأهل خميس مشيط، سلمهم الله من كل سوء ….