مراجعة في رواية كافكا على الشاطئ – هاروكي موراكامي
حين تفتح رواية “كافكا على الشاطئ”، فأنت لا تدخل قصة… بل تدخل غابة. ليست غابة بأشجار، بل بأفكار، بمشاهد تشبه الحلم، بأصوات لا تُسمع إلا في الداخل.
هاروكي موراكامي لا يقول لك “اتبع الأحداث”. هو يقول: “اتبع اللاشيء… هناك ستجدك.”
بطل الرواية، فتى يُدعى “كافكا تامورا”، في الخامسة عشرة من عمره، يهرب من بيت أبيه ونبوءة معلّقة كالغيمة. لكنه لا يهرب إلى مكان محدد، بل إلى كل ما هو غامض، إلى مكتبة، إلى امرأة نصف غائبة، إلى رجل يتكلم مع القطط، إلى ظلال تشبه الماضي، لكنّها لا تقول اسمه.
في هذه الرواية، لا شيء واضح. الزمن يُكسر. المنطق يُجرّب، ثم يُترك. لكن وسط هذا الغموض، يحدث شيء غريب: أنت تبدأ في تذكّر شيء داخلك، لم تفهمه من قبل.
موراكامي لا يكتب ليمتعك، بل ليفتح أبوابًا نسيتها داخلك. شخصياته ليست فقط غرباء… بل أجزاء منك. وربما كافكا ليس فتى في الخامسة عشرة، بل أنت… حين كنت تفتّش عن معنى، ولم تجد من يشرح لك أن المعنى لا يُشرح، بل يُعاش.
في هذا المقال، لا نحلل الرواية… بل نحاول أن نمشي داخلها، بهدوء، كما تمشي في حلم لا تملك السيطرة عليه… لكنك لا تريد الاستيقاظ منه.
هاروكي موراكامي… صوتٌ يكتب من خلف جدار الصمت
هاروكي موراكامي، كاتب ياباني لا يُشبه أحدًا. لا في بلاده، ولا في العالم. يعيش بين الكتب والقطط، بين موسيقى الجاز وأصوات الأحلام. لا يظهر كثيرًا، لا يشرح رواياته، ولا يحب الضوء… لكنه، رغم كل هذا، أنار عوالم داخل قلوب ملايين القرّاء.
ولد عام 1949، وبدأ الكتابة بعد لحظة صامتة في مباراة بيسبول، حين شعر فجأة أن شيئًا ما في داخله استيقظ. ومن تلك اللحظة، كتب كما لو أنه ينقّب عن شيء لم يُسمّه أحد من قبل.
هو لا يكتب عن الحب أو السياسة أو الحرب، بل عن الوحدة، الفقد، الهوية، والأماكن التي نذهب إليها حين لا يعرفنا أحد.
أما روايته “كافكا على الشاطئ”، فقد نُشرت عام 2002، وتعد من أكثر أعماله غموضًا وتأثيرًا. بطلاها — كافكا الصبي الهارب من نبوءة، وناكاتا العجوز الذي فقد ذكرياته ويستطيع الحديث مع القطط — يتحركان في خطّين منفصلين ظاهريًا، لكن بينهما جسر خفي… لا يُرى، لكنه يُحس.
الرواية ليست قصة تُقرأ، بل حلم يُعاش.
كل شيء فيها رمزي:
• الغابة = الضياع الداخلي.
• المرأة = الغياب الذي نحبه رغم الألم.
• المطر = التطهير.
• الحوار = همس الروح لنفسها.
لا تُعطيك “كافكا على الشاطئ” إجابات جاهزة، ولا تنتهي بوضوح. لكنها تجبرك أن تعود إلى داخلك، وتُعيد طرح الأسئلة التي نسيت أنك كنت تسألها.
الركض لا يُنقذك من قدرك… بل يقرّبك منه
“كافكا تامورا” لا يركض فقط من بيت، بل من نبوءة غامضة تسكنه، من أب قال له ذات يوم إنه سيعيد ارتكاب خطيئة قديمة، من أم رحلت وهو صغير، ومن فراغ يُقيم في داخله لا يُملأ بالكلام.
في الخامسة عشرة، يهرب. يحمل حقيبة صغيرة، لا يعرف وجهته، لكنه يعرف أنه لا يريد البقاء.
لكن الهروب هنا ليس جغرافيًا.
هو نزول إلى الداخل.
كل خطوة يبتعد فيها كافكا عن البيت، تقترب به من نفسه.
كل محطة جديدة ليست مكانًا… بل مرآة:
• المكتبة: الذاكرة التي لم تُكتشف.
• الآنسة ساييكي: الحب الذي يشبه الغياب.
• الغابة: التيه الضروري قبل الفهم.
موراكامي لا يقول لك إن الهرب ينجح. بل يقول:
“لن تهرب من قدرك، لأنك في النهاية ستقابله داخلك.”
الهروب في الرواية ليس هروبًا من قدر، بل بحث عن معنى.
عن تفسير لما لا يُقال، عن حوار لم يكتمل، عن سؤال لا إجابة له.
ومع كل فصل، تكتشف أن المكان الحقيقي الذي يبحث عنه كافكا… هو قلبه نفسه.
الرواية تسألك أنت أيضًا:
حين تهرب… هل تعرف حقًا ممَّ تهرب؟ أم أنك تحاول فقط أن لا تسمع الصوت الذي بداخلك؟
كل شخصية مرآة… لا أحد يدخل الرواية صدفة
في كافكا على الشاطئ، الشخصيات لا تظهر لتخدم الحبكة فقط، بل لتكمل صورة النفس التي تفتّتت داخل كافكا. كل شخص، كل كائن، حتى الجماد أحيانًا، يبدو كأنه انعكاس لجزء غير مُعبّر عنه في داخل البطل — أو في داخلنا نحن.
ناكاتا
رجل مسنّ فقد ذاكرته، لكنه اكتسب قدرة على الحديث مع القطط. لا يعرف القراءة ولا الكتابة، لكنه يتحرك بدافع شعور داخلي يشبه الحدس الطفولي.
هو النقيض الكامل لكافكا، ومع ذلك يُشبهه بشكل غريب.
ناكاتا هو “الجانب الصامت” من كافكا، الجزء النقي، الخالي من التفكير الزائد، الذي يخضع للتيار بدلًا من مقاومته.
الآنسة ساييكي
امرأة تعمل في المكتبة، تبدو مشيّدة من الحزن، تسكنها ذكرى حب قديم، لم تغادرها أبدًا.
…