لبنان من بين الدول العربية التي لم تنضم إلى “اتفاقية مكافحة جرائم تقنية المعلومات”، بالمقابل فإن قانون تجريم التحرّش قد شمل التحرش الإلكتروني بعقوباته. أيضاً أصدر لبنان قانون المعاملات الإلكترونية والبيانات الشخصية، إضافة إلى وجود وحدة متخصصة بمكافحة الجرائم الإلكترونية وحماية الملكية الفكرية تابعة لقوى الأمن الداخلي.
أما لجهة مصر والعراق المصادقتان على الاتفاقية العربية، تتصاعد موجات العنف الممنهج والرسمي ضد النساء في المجال الرقمي تحت غطاء مبررات تتصل بالآداب العامة، وعدم التسبب بالإزعاج للغير. في مصر، يتجاوز العنف الإلكتروني الممارس ضد النساء النشاط السياسي ليشمل ملاحقة أي محتوى يعتبره النظام الأبوي مهددًا لقيم الأسرة. ومن أبرز الأمثلة على هذا العنف المنظم حملة “فتيات التيك توك”، التي بدأت في نيسان/ أبريل 2019، حيث قاد يوتيوب حملة على تيك توك تحت هاشتاغ #خليها تنضف.
استهدفت الحملة الفتيات والنساء بسبب محتواهن على المنصة، وتعرضن لهجمات منظمة، بلغت حد تقديم بلاغات للنيابة العامة، وصدور أحكام بالحبس والغرامات المالية بتهم مثل “التحريض على الفسق والفجور” و”نشر صور وفيديوهات مخلة”. تأتي هذه الممارسات ضمن إطار التشريع المصري، تحديداً قانون تنظيم الاتصالات، ثم قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، والأخير وسّع نطاق التجريم ليشمل “تعمّد الإزعاج” و”إساءة استخدام أجهزة الاتصالات” و”المحتوى المعلوماتي غير المشروع”، ما أتاح مجالاً لتطبيق نصوص قانونية عقابية متعدّدة بشكل مزدوج.
أما لجهة العراق، تتبع الحكومة نهجًا منظمًا لملاحقة النساء بسبب محتواهن على مواقع التواصل الاجتماعي. في مطلع عام 2023، أطلقت وزارة الداخلية العراقية منصة “بلّغ” للإبلاغ عن المنشورات التي تتضمن “إساءة للذوق العام” أو “تخدش الحياء”.
وأعلن “رئيس المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان” في العراق، فاضل الغراوي، أن 50 بالمئة من النساء المُعنفات في العراق يتعرضن للعنف الرقمي، والتنمر الإلكتروني، والابتزاز الإلكتروني، والإتجار بالبشر إلكترونيًاً. وتصاعدت حالات الابتزاز الإلكتروني في العراق لتشمل جرائم واقعية مثل القتل والخطف وتشويه الأجساد. ومن أبرز القضايا التي تكشف مدى تفلت العنف الرقمي من العقاب، قضية مقتل غفران مهدي سوادي في سيارتها أمام منزلها، والتي تلتها تهديدات عبر منصة إكس لـ 14 امرأة مؤثرة على وسائل التواصل الاجتماعي بضرورة مغادرة العراق تحت طائلة تعرضهن لنفس المصير.
بالتالي، يبرز العنف الرقمي المنظم ضد النساء في مصر والعراق كأداة قمعية متعمدة تستخدمها السلطات لقمع حرية التعبير وتكريس النظام الأبوي. في مصر، تتوسع هذه الملاحقات لتشمل أي محتوى يهدّد القيم الأسرية التقليدية، بينما تتبنى الحكومة العراقية نهجاً لملاحقة المحتوى الذي تراه مخالفاً للذوق العام، مما يضاعف معاناة النساء ويزيد من صعوبة التحديات التي يواجهنها في الفضاء الرقمي.
بين النزاعات والاحتلال
في سوريا التي قتلت فيها ما لا يقل عن 28,926 أنثى منذ آذار/ مارس 2011، وتعرضت 11,541 منهن لحوادث عنف جنسي، تواجه النساء تحديات جسيمة في ممارسة حقوقهن الأساسية بسبب الانتهاكات المستمرة من قبل جميع أطراف النزاع، وعلى رأسها النظام السوري.
يخلو القانون السوري من أي رادع جدي يمنع التحرش الجنسي والعنف الرقمي، ولا يفي بالحاجة لحماية النساء بشكل كافٍ. تتنوع أشكال العنف الرقمي التي تواجهها النساء في سوريا بين التشهير، الرسائل ذات الطابع الجنسي، والتحرش الإلكتروني.
على الرغم من كون هذه الأشكال من العنف مشتركة على صعيد العالم العربي وعالمياً، غير أن لمناطق النزاع خصوصياتها. في الحالة السورية تختلف معاناة النساء تبعاً لمنطقة السيطرة اللواتي يعشن فيها. في مناطق سيطرة الحكومة المؤقتة والإدارة الذاتية، يُطبَّق القانون السوري مع بعض التعديلات، وفي مناطق سيطرة حكومة الإنقاذ، يُطبّق الفقه المقارن المستند إلى الشريعة الإسلامية. هذا التنوع القانوني يزيد من تعقيد الحماية القانونية للنساء. وبغض النظر عن تفاوت احتمالات الحماية القانونية تبعاً للمناطق، فإن النساء الناشطات سياسياً يتعرضن للعنف الرقمي بسبب نشاطهنّ السياسي، وتعانين من هجمات تستهدف حياتهن الشخصية وسمعتهن، وغالباً ما تتصاعد مع زيادة فعاليتهن السياسية. ويتفاقم خطر التعرض للعنف الكترونياً بالنسبة للاجئات في المخيمات تبعاً لسهولة خرق خصوصيتهن عبر الخيام، إضافة إلى النساء اللواتي تحوّلن إلى معيلات لأسرهن فجأة، بحيث تصبح بياناتهن متاحة بسبب انتشارها بين المؤسسات العاملة في الإغاثة.
على صعيد آخر، تختبر الفلسطينيات العنف الرقمي في ظل واقع استعماري يقطع الطريق على إمكانيات تأمين الحماية للنساء. تعاني النساء الفلسطينيات من العنف الرقمي المتعدد الأشكال، وتعاني الناشطات في الجمعيات النسوية في مناطق الـ 48 من الابتزاز والتهديدات من عصابات الإجرام والسلاح. كما يستخدم الجيش الإسرائيلي المراقبة الرقمية لابتزاز أفراد مجتمع ، مهدداً بفضح ميولهم الجنسية أو صورهم الحميمية. إلى ذلك، برزت وسائل التواصل الاجتماعي كأداة محورية للفلسطينيين لتوثيق الجرائم والانتهاكات المرتكبة بحقهم، لا سيما في ظل الحرب المستمرة على غزة. لكن السلطات الإسرائيلية تستخدم سلطتها لقطع الإنترنت عن قطاع غزة، مما يزيد من حالة الخوف وعدم اليقين لدى السكان ويعيق توثيق الانتهاكات. في الضفة الغربية والقدس، يتعرّض الفلسطينيون للملاحقة بسبب تغريدات تتعلق بالحرب على غزة.
بسبب الاحتلال وتقطيع أوصال فلسطين التاريخية، تتعدد السلطات القانونية، إذ تفرض السلطة الفلسطينية قوانينها في الضفة الغربية، بينما تطبق حكومة غزة قوانينها، وتخضع القدس والداخل الفلسطيني لقوانين الاحتلال الإسرائيلي. يؤدي هذا التشظي إلى فجوات كبيرة في الحماية القانونية للنساء. على سبيل المثال، هناك قوانين عقوبات قديمة تطبق في الضفة وغزة، فيما تعتمد القدس والداخل الفلسطيني على القانون الإسرائيلي. رغم مصادقة فلسطين على اتفاقية “سيداو”، فإن غياب دولة ذات سيادة يحول دون تنفيذ التزاماتها لحماية النساء من العنف. مع استمرار الاحتلال والانقسامات السياسية والجغرافية، تبدو جهود حماية النساء الفلسطينيات من العنف الرقمي والعنف بشكل عام بعيدة المنال. يلعب المجتمع المدني دوراً محورياً في هذا السياق، إذ استحدثت لجان مجتمعية ونساء مصلحات لتقديم الدعم والحماية خارج النظام القانوني الرسمي. ومع ذلك، يبقى الوصول إلى العدالة الكاملة والمساواة بين الجنسين تحدياً كبيراً في ظل الظروف الحالية. بهذا المعنى، تظل النساء الفلسطينيات عالقات بين أنظمة قمعية متعددة تزيد من معاناتهن وتعقيد حياتهن اليومية، ما يتطلب جهوداً مستمرة من المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية لدعمهن وحمايتهن من العنف الرقمي والجسدي على حد سواء.
في الأردن أيضاً وحدة مخصصة لمكافحة الجريمة الإلكترونية. وفي عام 2023 أُقرّ قانون الجرائم الإلكترونية الجديد الذي أثار موجة من الانتقادات لاحتوائه على مواد قمعية. وقد حصل هذا التراجع في ظل ارتفاع نسبة العنف ضد النساء ليبلغ عدد جرائم قتل النساء في الأسرة 27 امرأة في 2023. وقد تضاعفت الجرائم الإلكترونية عموماً 6 مرات بين عامي 2015 و2022 لتصل إلى 16027 قضية في 2022، منها 1285 قضية ابتزاز.
دكتور القانون العام والاقتصاد الدولي
ومدير مركز المصريين للدراسات بمصر ومحكم دولي معتمد بمركز جنيف للتحكيم الدولي التجاري
وعضو ومحاضر بالمعهد العربي الأوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا