وحشُ البحيراتِ يتسلّلُ ببطءٍ، يتحرّكُ بخفّةٍ لا تشعرُ بها، يلتهمُكَ على حين غرّةٍ؛ ودونَ أنْ تشعرَ تجدُ نفسَكَ فريسةً سهلةَ الابتلاعِ.
إنَّه القلقُ ذلك الوحشُ العملاقُ الّذي يتسلّلُ إلى العقلِ يسيطرُ على خلاياهُ واحدةً تلو الأخرى يعطّلُ تروسَ التَّفكيرِ، يشلُّ الذِّهنَ، يُصدرُ إشاراتٍ عنيفةٍ تعملُ على فسادِ الشُّعيراتِ الّتي تُوصلُ الأوامرَ، تَوقّفٌ تامٌ عن الإنفعالِ، سيطرةٌ تامةٌ له، غلبةٌ ومنعةٌ من الحراكِ والعملِ.
قد تمّتْ المهمّةُ، وسيطرَ على مجرياتِ الأمورِ، والتَهمَ ما تبقّى منكَ.
القلقُ ذلك الوحشُ الّذي يُفسدُ حياتَكَ، علاقاتِكَ، وصِلتَكَ بربِّكَ.
فهو يُوهنُ القلبَ، يُعرّضهُ للمرضِ، يأكلُ خلايا قلبِكَ، ويمتصُّ دمَكَ؛ فتبقى جثّةً هامدةً زرقاءَ اللَّونِ مختنقةً؛ أنتَ فريسةٌ بمحضِ إرادتِكَ، سلّمتهُ نفسَكَ دونَ أدنى مقاومةٍ، اعترافٌ منكَ بمحدوديّةِ اللَّه، وقنوطٍ من رحمتِهِ.
حالةٌ تفقدُكَ دنياكَ، وآخرتَكَ معًا وبئسَ بها حالةً.
ويبقى السُّؤال: هل نستسلمُ لهذا الوحشِ المرعبِ ظنًّا منَّا أنْ لا خلاصَ منه؟!
الخلاصُ من ذلك الوحشِ لا يكونُ في المواجهةِ أو الحربِ وإنَّما في الرُّكونِ إلى الهدوءِ، الاطمئنانِ، وجلبِ طاقاتِ الأملِ.
في التَّمسّكِ بعصمةِ الدِّينِ، وروحِ الانطلاقِ إلى الحياةِ، في قولِكَ أنَّ اللَّه قدَّرَ هذا، وهو كفيلٌ به، في دعواتٍ كثيراتٍ، في ممارسةٍ لبعضِ أشكالِ الرِّياضةِ الذِّهنيةِ – التَّأملُ، اليُوجا والتَّنفسُ العميقُ الهادئُ -، في اعتيادِ الهدوءِ والخلوةِ مع النَّفسِ يوميًا، في المشيِّ بلا هدفٍ لمدةٍ طويلةٍ.
فنحنُ نتخلّصُ من القلقِ عن طريقِ إزالتِهُ من عقولِنا كما تُزالُ البقعُ بغسلِها؛ فننظّفُ العقلَ من سيطرتِه شيئًا فشيئًا يومًا بعد يومٍ، كما يكونُ التَّخلّصُ من هذا الوحشِ عن طريقِ التَّعودِ على انزالِ الحِمْلِ عن كتفيكَ في الصّلاةِ مع الرُّكوعِ والسُّجودِ.
في مكاشفةِ النَّفسِ بأنَّكَ لا حيلةَ لكَ، وأنَّكَ لا ترى الحلَّ مع السَّعي الدَّائمِ، وطَرْقِ كلِّ الأبوابِ الموصدةِ حتى ترى عجائبَ الحلولِ أمامَكَ.
القلقُ حالةٌ نفسيّةٌ شديدةٌ إذا تركناها سيطرتْ علينا، وفتكتْ بنا وإذا حاربناها؛ هلكنَا.
ولكن يكمنُ السِّرُ في التَّخلّصِ منه بطريقةِ عيشٍ مناسبةٍ، أسلوبِ حياةٍ مطمئنٍ، وركونٌ إلى اللَّه مدبّرِ الأمرِ.