نص: د. خالد الجابر – إخراج: الفنان علي ميرزا
عرض “الرُبّان” ،الذي تم عرضه ليله البارحه ضمن مهرجان الدوحه المسرحي، هو تجربة مسرحية رمزية تدور أحداثها في فضاء غير محدد على متن سفينة تائهة، يجتمع فيها عدد من الشخصيات المتنوعة في الوعي والانتماء، تقودهم شخصية ربّان غامض ومشكوك في شرعيته. العرض لا يقدم حبكة تقليدية أو تطورًا دراميًا واضحًا، بل ينشغل بطرح أسئلة وجودية وسياسية عن القيادة والمصير الجماعي، من خلال حوارات تأملية وأداء ذي طابع تعبيري. إخراج الفنان علي ميرزا اعتمد على توظيف بصري وصوتي مميز، أبرزته المؤثرات السمعية وهدير البحر المصاحب للحالة الشعورية، في حين بقي الأداء التمثيلي في معظمه أسيرًا للنمط المدرسي.
منذ اللحظات الأولى لعرض “الرُبّان”، يُدرك المتفرج أنه أمام تجربة مسرحية غير تقليدية، لا تسعى إلى محاكاة الواقع أو تقديم حكاية مكتملة الملامح بقدر ما تنسج فضاءً رمزيًا يحمل دلالاته الخاصة. فالسفينة التي تشكّل فضاء الأحداث لا تُقدَّم كمكان واقعي بقدر ما تتحول إلى منصة رمزية، تتغير مواقعها البصرية بتغير مشاهد العرض، فتارة تكون فوق الخشبة، وتارة أمامها، وأخرى خلفها. هذه الحركة المتعددة عززت شعور التبدل الدائم، وكأن السفينة نفسها لا تعرف إلى أين تتجه، مثل مصير الشخصيات تمامًا.
النص، الذي كتبه الدكتور خالد الجابر، وهو القادم من عالم الرواية والمقالة، حمل معه خصائص أسلوبه السردي الواضح. فالمسرحية في بنيتها تميل إلى الطابع المقالي والخطابي أكثر من البنية الدرامية التصاعدية. الشخصيات لا تتطور بصورة تقليدية، ولا تتغير سلوكياتها تدريجيًا، بل تُمثل مواقف وأفكارًا جاهزة، تتحدث بها مباشرة دون مواربة. وهذا ما جعل الحوار في كثير من الأحيان يبدو مباشرًا، بل واعظيًا أحيانًا، في مقابل غياب التصعيد الدرامي الملموس.
من هذا المنطلق، لا بد للمتلقي أن يتخلّى عن انتظاراته الكلاسيكية المرتبطة بالمسرح التقليدي. فالعرض لا يسير وفق تسلسل درامي تقليدي، ولا يعوّل على حبكة واضحة المعالم، بل هو أقرب إلى جدلية فكرية تدور داخل سفينة لا نعرف من أين أتت، ولا من فيها، ولا حتى إن كان الربّان هو قائدها الفعلي أم أنه مجرد منتحل لدور القيادة في لحظة فراغ.
الإخراج، الذي تولاه الفنان علي ميرزا، قدّم رؤية بصرية تعتمد على المزج بين خشبة المسرح والعرض السينمائي. فاستخدام الصور الخلفية التي أظهرت السفينة وسط أمواج البحر، إلى جانب الأمواج المتحركة في مقدمة المسرح، أسهم في خلق أفق بصري تعبيري، ينقل الشعور بالتيه والعزلة. الإضاءة كانت مقبولة في توظيفها العام، وإن لم تكن استثنائية، لكنها ساعدت على ترسيخ الجو العام، خاصة في لحظات التوتر والقلق.
أحد أبرز العناصر التي يمكن الإشارة إليها في هذا العرض هو المؤثرات الصوتية، وبخاصة هدير البحر، الذي كان حاضرًا على امتداد العرض تقريبًا. تميز هذا العنصر بقدر كبير من الحساسية والتفاعل مع الأداء. فقد كان هدير البحر يرتفع حين تصاعدت حدة المشاهد وانفجرت الشخصيات في انفعالاتها، وينخفض في لحظات السكون والتأمل، ليعكس بدقة نبض اللحظة الشعورية. هذا التداخل بين المؤثر الصوتي والأداء أضفى طبقة إضافية من التوتر على المشاهد، ونجح في جعل البحر كائنًا حاضرًا لا يُرى، لكنه يُشعر به دومًا.
أما على مستوى الأداء التمثيلي، فقد ظهر الميل إلى الأسلوب المدرسي واضحًا. اعتمد أغلب الممثلين على الصوت أكثر من الجسد، فجاء الأداء خارجيًا، دون انفعالات نابعة من الداخل. لم نلمح توتر الجسد، أو ارتباك النفس، باستثناء الممثلة التي قدمت أداءً داخليًا وخارجيًا إلى حدٍّ ما، مقارنة ببقية الممثلين الذين التزموا بنمط أداء خطي، يعتمد على إلقاء الجمل الحوارية وكأنهم يسعون إلى الانتهاء منها لا إلى تجسيدها دراميًا. كما عانى العرض من مشكلة واضحة في مخارج الحروف، مما جعل بعض الجمل غير مفهومة، خصوصًا في المشاهد التي تطلبت انفعالًا عاليًا.
ورغم أن النص، الذي اطلعت عليه شخصيا، زاخر بالإشارات الرمزية والدلالات السياسية والاجتماعية، إلا أن الفجوة بين النص والأداء بدت واضحة أحيانًا. فالنص يسائل السلطة، ويطرح أسئلة عن المصير، ويُدخل المتلقي في فضاء من الشك، لكن هذه الطروحات لم تُترجم دائمًا بفعالية على الخشبة، وظل الكثير من الجمل حبيسة النص دون أن تجد انعكاسها الحقيقي في أداء الممثلين أو إيقاع المشاهد.
مع ذلك، لا يمكن إنكار أن العرض حمل معه طموحًا جماليًا. فقد حاول المخرج أن يبتكر مساحة مسرحية غير تقليدية، تعكس تقلبات الفضاء والزمن والمصير. وكانت بعض المشاهد تمتلك طاقة بصرية خاصة، لا سيما تلك التي تداخلت فيها المؤثرات البصرية والصوتية مع أداء الممثلين، لتُنتج لحظة خشبية نابضة بالتوتر والتأمل.
ختامًا، يمكن القول إن “الرُبّان” هو عرض يطرح أسئلة أكثر مما يقدم أجوبة. إنه عرض لا يريد أن يُرضي، بل أن يُقلق، لا يسعى إلى تقديم مسار درامي تقليدي، بل إلى دعوة للتفكير والتأويل. ورغم ما شابه من هنات في الأداء وتوتر في الإلقاء، إلا أن التجربة تظل جديرة بالتأمل، خاصة لمن يقرأ المسرح كأداة للتساؤل والتفكيك لا كحكاية تُروى وتنتهي.


