فكرة الكتابة في رثاء الأعزاء فكرة مؤلمة ألم الفراق نفسه فكيف يكون رثاء رجل في قيمة وحجم المحاسب محمود محمد صديق سلام الشهير بأنور صديق أو أبو خالد كما كنا وكان نحب أن نناديه أحد أعلام ورموز البياضية والأقصر والصعيد قاطبة. رجل من الزمن الجميل وشخصية شديدة الثراء لا تمل من الجلوس له والاستماع منه.
كنت في صدر الشباب كثيرا ما أسأل نفسي كيف لمثل هذا الرجل وهو سليل عائلتي آل سلام والدويكات من العمد والوزراء والسفراء ألا يكون وزيرا لما لديه من رؤي شاملة لكثير من القضايا أو محافظا وهو الذي يعرف كل شبر وكل حجر في الصعيد أو علي الأقل عضوا بمجلس الشعب وهو صاحب الشعبية الجارفة التي كثيرا ما كانت جسرا لعبور من يريد أن ينجح في أي انتخابات فكان من يحصل علي دعم وتأييد أبو خالد يضمن النجاح. ولكن أعترف أنني عندما كبرت قليلا فهمت أن مثل تلك الشخصية الفريدة هي في ذاتها أكبر من أي منصب زائل ولا يجوز لها أن تتلوث بالعمل السياسي لذا كان أبو خالد يمثل بالنسبة للبياضية وزيرها ومحافظها ونائبها الذي يخدمها دون مناصب رسمية قد تنتهي بنهاية مدة المنصب.
مازلت أتذكر كل تفاصيل تلك الليلة التاريخية في حياة أبو خالد وحياة البياضية كلها عندما كان الرجل علي منصة مؤتمر انتخابي يدعم خلاله نائب البياضية عبد النبي رشيدي وبعد أن ألقي كلمته تنحي قليلا عن المنصة ليسلم علي ابنه البكر خالد أنور وكيل النائب العام الذي كان في إجازة بالبياضية وحان موعد عودته لعمله بالقاهرة بسيارته فجاء للمؤتمر لتوديع والده ولم يكن أحد يدري أنه الوداع الأخير حيث استشهد خالد في مدخل مدينة سفاجا حيث سارعت البياضية لمؤازرة أبو خالد ذلك الجبل الذي وقف صامدا حتي أنهي جميع الإجراءات ثم توجهنا بجثمان خالد إلي مسجد أسامة البكري المقام تخليدا لرمز آخر من رموز البياضية وظل أبو خالد متماسكا حتي وضعنا جثمان خالد في المحراب وأصر أن يؤمنا في الصلاة عليه وفي هذه اللحظة سمعت ورأيت وللمرة الأولي الجبل يهتز ويبكي علي ولده المسجي أمامه. لعلها تلك المرة الأولي التي بكي فيها أبو خالد أمام الناس ومن المؤكد أنها لم تكن الأخيرة.
منذ فترة قرر مجلس آل سلام برئاسة أبو خالد والشيخ صديق سلام والحاج خيري سلام هدم البيت الكبير وإعادة بنائه مع ديوان العائلة، لم يكن القرار سهلا فالبيت هو جزء من تاريخ المكان الذي يمثل للجميع قيمة كبيرة وفي اليوم المقرر لبدء هدم البيت أحضر أبو خالد كرسيا وجلس أمام البيت ليشاهد جزءا منه يسقط أمام عينيه، قضي أبو خالد أمام البيت ساعتين وكان كل من يمر عليه يجلس بجواره بعض الوقت وكأنه كان يودع مع البيت كل من يعرفهم في البياضية ثم مر به الحاج صلاح الدويك ابن خالته والحاج عبد الكريم فأرادا أن يخرجاه من حزنه علي البيت فاصطحباه في جولة بالأقصر وكأن أبو خالد يودع كل مكان عاش فيه ثم جلسا يستريحان قليلا فطلب فنجان قهوة ما إن انتهي منه حتي أسلم الروح لبارئها وهو واقف كما شجرة الجميز العتيقة الرابضة عند الترعة.
طب نفسا يا أبا خالد واقرأ خالد وكل الأحباب الذين سبقونا منا السلام وسلام عليك في الخالدين، وصبرا للزوجة المكلومة أبلة راوية البكري وللابن أحمد أنور صديق الرائد بقسم شرطة قوص وللابنة مهجة ولجميع آل سلام وللبياضية كلها وإنا لله وإنا إليه راجعون.