خلصنا في المقال السابق إلى إتفاق كثير من المفكرين على أن العقل العربي بلغ توهجه وذروة عطائه الحضاري عندما تحرر من الانتماءات القبلية والعنصرية والعرقية والتقوقعات الجغرافية في ظل الرؤية الاسلامية التي صبغت المسلم العربي وغير العربي بالصبغة العالمية واحتضنت غير المسلم كشريك في الإنسانية. وساهمت تلك الرؤية الواضحة التي تربى عليها والتزم بها الفرد والمجتمع المسلم في بناء حضارة زاهرة ساهمت في تقدم الانسانية في مختلف المجالات ولا تزال اثارها باقية في كثير من مناطق العالم.
فالاسلام عظم العقل البشري وأوضح ذلك المفكر الراحل عباس محمود العقاد في كتابه القيم ( التفكير فريضة اسلامية ) بقوله :”القرآن الكريم لا يذكر العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع اليه، ولا تأتي الإشارة اليه عارضة ولا مقتضبة في سياق الآية، بل هي تأتي في كل موضع من مواضعها مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة، وتتكرر في كل معرض من معارض الأمر والنهي التي يحث فيها المؤمن على تحكيم عقله أو يلام فيها المنكر على اهمال عقله، وقبول الحجر عليه”.
ولخص العقاد – يرحمه الله – في هذا الكتاب القيم سبب تأخر العرب بغياب التفكير ومنع استخدام العقل بقوله :” الاسلام لا يتقبل من الفرد ان يلغي عقله ليجري على سنة أباءه وأجداده ، ولا يقبل منه أن يلغي عقله خنوعا لمن يسخره باسم الدين في غير ما يرضى العقل والدين ، ولا يقبل أن يلغي عقله رهبة من بطش الاقوياء وطغيان الاشرار “.
وجاء تعظيم الإسلام وكل الأديان السماوية للعقل كموضع للتفكير والادراك ومن هنا فإن القرآن الكريم يدعوالإنسان ليس فقط للتفكير بل لتنمية التفكير بمهارات معينة من شأنها أن تساعد على التفكير مثل : التدبر- التبصر التعقل –النظر-التذكر-مخاطبة أصحاب العقول –التفقه. وذكرت دراسة نشرتها جامعة الأميرة نوره بالسعودية ان كلمة التفكير تكررت في القرأن الكريم 18 مره ، والتعقل 49 مرة، والتذكر 292 مرة ، والتبصر 184 مرة ، والنظر 129 مرة ، والإعتبار 9 مرات ، والتفقه 20 مرة ، وأصحاب العقول 16 مره. باجمالي 678 مرة وردت في 646 آية. وأوضحت الدراسة : “إذاعلمنا أن عدد آيات القرآن الكريم (6236) أية ، تكون نسبة آيات التفكير ومرادفاته 10,3 % وبهذه النسبة العالية أعطى الله سبحانه وتعالى الإنسان حرية كاملة للتفكير واختيار طريق الحياة “.
وعظم الاسلام التفكير وجعله فريضة وعبادة ، ويقول الباحث عبداللطيف بن عبدالله التويجري :” نص بعض العلـماء على أن منزلة التفكُّر تعد من أفضل الأعـمال وأشرفهـا، وذلك لأن الفكرة عمل القلب، والعبادة عمل الجوارح، والقلب أشرف الجوارح، فكان عمله أشرف من عمل الجوارح”.
ويقول الدكتور بدرهميسة :” عبادة التفكر هي عبادة الأنبياء ودرب الأتقياء ونور وبرهان للاهتداء “.
وعظم الاسلام وكل الأديان السماوية مكانة العلماء في كل العلوم النافعة دنيا واخرة، ويكفينا هنا قول الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابو الدراء :”.. والملائكة تضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإن العالم يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، والحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، إنّ العلماء ورثة الأنبياء”.