” أفرغ قلبك للعلم وأحبه كما تحب أمك ، فلا شيء في العالم يعدل العلم في قيمته”. وجدت هذه العبارة القيمة جدا مكتوبة على احدى البرديات ، وكانت بمثابة نصيحة وجهها أب لإبنه وهو يتوجه الى المدرسة.
وسجل الدكتور سليم حسن في كتابه (الأدب المصري القديم ) وصية خيتي لإبنه بيبي خلال عصر الدولة الوسطي يقول له : ” لا شئ يفوق الكتب ، ليتني أجعلك تحب الكتب أكثر من والدتك، إن يوما تقضيه في المدرسة يعود عليك بالنفع ، وما تعمله فيه يبقى مثل الجبال “. وأكد الدكتور سليم أن التعليم كان له اولوية في حياتهم لدرجة أن المدرسة عند المصريين القدماء كانت تسمى ” بر- عنخ” أي (بيت الحياة)، وفيها كان التلاميذ يتعلمون مبادئ الدين وحروف الهجاء وقواعد الحساب.
ويرى د. سليم أن المصرين القدماء اهتموا بتربية النشء قبل اهتمامهم بتعليمهم أسرار الكتابة، وركزت تعاليمهم على غرس المبادئ التي تساعد على الاستقامة في الحياة والتي تؤهل الفرد لرحلته الأخيرة بعد الموت.
وجاء في موسوعة المعرفة أنه تم العثور على إحدى الكراسات تخص أحد الطلاب المصريين في عهد الدولة الحديثة، مكتوب عليها تعليق لأحد المعلمين يقول فيه : “لا تضيع وقتك في التمني ، وإلا ساءت عاقبتك. اقرأ بفمك الكتاب الذي بيدك ، وخذ النصيحة ممن هو أعلم منك، لا تكن متوانيا وتفهم طرق أستاذك واتبع تعاليمه “. ووصفت الموسوعة تلك العبارة بأنها من أقدم ما عرف من الحكم في أية لغة من اللغات .
ويرى الدكتور سعيد إسماعيل في كتابه ( التربية في الحضارة المصرية القديمة ) أن التعليم كان ينقسم الى 3 مراحل ، والمرحلة الثالثة تقابل مرحلة الدراسات العليا في أيامنا، وكان يتلقى فيها الطلاب علوما أكثر تخصصا في الطب والرياضيات و الفلك والفنون، وكانت مدارسها تلحق بالقصور والمعابد، ويجتمع فيها كبار الكتاب وأكثرهم ثقافة وكانت تؤلف فيها الكتب في أفرع العلم المختلفة.
وهناك الكثير من الآثار التي تكشف أهمية التعليم لدى المصريين القدماء وتكشف أن الحضارة المصرية التي لا يزال الكثير من أسرارها لم تعرف بعد ، بنيت أساسا على العلم. وهنا مطلوب أن نقف وقفة صدق مع النفس ، نعترف فيها بتضييع الأحفاد لتراث الأجداد بسبب تراجع مستوى التعليم لدينا في كافة مراحله ، بداية من الحضانة وحتى الدراسات العليا . والدلائل على هذا التردي كثيرة منها تقارير التنمية البشرية العالمية والتي تضع مصر في مرتبة متأخرة جدا، وأهمها ضعف مستوى معظم الخريجيين ، وقد كتبت منذ سنوات مقالا بعنوان ” خريج منزوع الدسم “.
وأرى أن سبب هذا التراجع هو حدوث انحراف في فلسفة التعليم التي تهدف في الأساس إلى إعداد جميع أفراد المجتع في جميع نواحي الحياة المعرفية والمهاراتية والسلوكية ، فتحول الوضع وأصبح هدف التعليم الان هو الاسراع في تجاوز سنوات الدراسة والإعتماد على الحفظ والتلقين للحصول على شهادة تساعد في الحصول على وظيفة. وتزايد الانحراف بعد فشل أصحاب الشهادات في الحصول على وظائف مناسبة ، وبلغت الكارثة ذروتها أن كثير من الشباب أصبح يشكك في جدوى التعليم.
فمتى تعود المدرسة ” بيت الحياة ” كما كانت عند أجدادنا ؟!.