ان وسائل الاعلام تقوم احيانا، وبدون قصد، بالترويج لغايات الارهاب واعطائه هالة اعلامية لا يستحقها في ظل الاهداف التي يراد تحقيقها من وراء العمل الاعلامي او العمل الارهابي بما هي شهرة وسلطة ومال وتأثير فكري.
فالإرهابيون يحصلون على دعاية مجانية لأعمالهم، والاعلام يستفيد ماليا لان التقارير التي تنشر في هذا المجال تزيد من عدد قراء الجريدة وعدد مشاهدي التلفزيون، وبالتالي تزداد مبيعات الجريدة وقيمة الدعاية المنشورة عليها وزيادة قيمة الدعاية التي يبثها التلفزيون. ما دفع ديفيد برودر المراسل الصحفي في الواشنطن بوست الى المطالبة بحرمان الارهابي من حرية الوصول الى منافذ الوسائل الاعلامية،
لان تغطية العمليات الارهابية اعلاميا، واجراء مقابلات اعلامية مع الارهابيين تعتبر جائزة او مكافأة لهم على افعالهم الاجرامية، اذ تتيح لهم المجال ان يخاطبوا الجمهور ويتحدثوا اليه عن الاسباب والدوافع التي دفعتهم لهذا الفعل، ما يتسبب ربما بإنشاء نوع من التفهم لهذه الاسباب، وذلك على حساب الفعل الاجرامي نفسه.
فقد ذكر الكثير من الاشخاص المنخرطين في العمل الارهابي الذين ألقى القبض عليهم في العراق، انهم تأثروا بما كانت تعرضه قناة الجزيرة او غيرها في هذا المجال، فقرروا الالتحاق بالمنظمات التي تحرض على القيام بالتفجيرات والعمليات الانتحارية. ان عرض المناظر والمشاهد المأساوية وتصوير الأضرار بشكل متكرر ومبالغ فيه، اضافة الى بث وجهات نظر الارهابيين التي يقصد منها اثارة الخوف، تشكل خطورة وتنطوي على ردود فعل سلبية من شأنها خدمة العمل الارهابي،
خاصة في ظل تنافس وسائل الاعلام المختلفة على النقل الفوري للأحداث المتعلقة بالإرهاب من اجل تحقيق سبق صحفي ، لاستقطاب اعداد متزايدة من جمهور القراء والمشاهدين ، والذي قد يكون على حساب القيم الاخلاقية والانسانية التي ترفض المساعدة في نشر العنف والتطرف في اشارة واضحة الى قدرة المنظمات الارهابية على تطويع الاعلام والاستفادة من ثورة الاتصالات المتقدمة في تنفيذ عملياتها واجندتها ومخططاتها الاجرامية ، اضافة الى حضورها الفاعل على الانترنت وغيره من وسائط المعلوماتية للترويج لأفكارها الهدامة وتجنيد الشباب في صفوفها.
الامر الذي يؤكد بان الاعلام أصبح يمثل سلاحا خطيرا في يد الارهابيين، الذين بات بمقدورهم توجيه رسائل لها تأثير سلبي مباشر على الافراد والمجتمعات. ففي أحد الاستطلاعات التي اجريت لمعرفة ما إذا كان هناك دورا للأعلام في تأجيج الارهاب، اجاب 80% من مجموع المستجوبين اجابة مطلقة تفيد بان الاعلام يلعب هذا الدور.
كذلك هناك ثمة سلبيات ينطوي عليها توظيف الجماعات الارهابية للأعلام للترويج لخطابها الارهابي على نحو يؤدي الى تحفيز فئات اجتماعية مسحوقة الى تبني الخيار الارهابي. كما يؤدي تضارب المعلومات الاعلامية عن العمليات الارهابية الى بث البلبلة،
وأحيانا الى وجود من (يتعاطف مع الارهابي)، وربما يلعب الاعلام دورا في نقل التعليمات الارهابية الى الخلايا النائمة او النشطة او اقامة اتصالات جديدة مع جماعات حليفة.
ان عدم التخصص وضعف الخلفية المعرفية للقائمين على التغطية الاعلامية التي تتعامل مع ظاهرة العنف والارهاب أثر سلبا في ايجاد الحلول المناسبة لها، وحولها الى مجرد تغطية سطحية وأحيانا تحريضية واتهامية تنطوي على اتهامات واحكام مسبقة وربما مبيته، جعلها عاجزة عن فهم خطاب الجماعات المتطرفة الاعلامي ومنظوماتها ومرجعياتها الفكرية والتنظيمية.
وفي حالات كثيرة تميل المعالجة الاعلامية لظاهرة الارهاب اما الى التهوين واما الى التهويل، ما يؤثر في صدقية هذه التغطية ويحد من قدرتها على التأثير بسبب طغيان البعد الدعائي على البعد الاعلامي الموضوعي.
لقد ذهبت اغلب التغطيات والتحليلات والتعليقات الاعلامية تحت هول صدمة احداث 11 (سبتمبر) في الولايات المتحدة الاميركية، الى تحميل منظومة قيمية وفكرية بعينها مسؤولية هذه الاحداث عندما اتهمت الاسلام بقمع الحريات وممارسة العنف والتسلط.
وقد ساهم في هذا الترويج والتعميم الذي انجرت اليه معظم وسائل الاعلام الغربية في التعامل مع هذه الاحداث ومع تداعياتها، من اسماهم الباحث الفرنسي فإنسان جيشير بالمثقفين الاعلاميين الذين انزلقوا من الدرس الأكاديمي الرصين الى الكتابات التبسيطية التضليلية عن الاسلام،
مستفيدين في ذلك من سياقات التوتر والقلق والخوف التي تعيشه المجتمعات الغربية، لتتحول بذلك احداث 11 ايلول الى مناسبة تم توظيفها من قبل الاعلام الغربي في تشويه صورة الاسلام، وتمرير صورة مضللة عنه تقرنه بالعنف والارهاب، وذلك في سياق حملة ثقافية مدبرة ضد العرب والاسلام تبدأ من الكتب المدرسية لتمضي عبر معظم الوسائط المعلوماتية والاتصالية.
وما يلفت الانتباه في التعاطي الاميركي مع هذه الاحداث، الطريقة الاعلامية التي اعتمدت في تغطيتها من خلال نشر وترسيخ ثقافة (اعلامية)
اساسها ايضاح آثار العمليات الارهابية واخطارها وتعبئة الرأي العام ضدها بهدف تحصينه ضد الخطر الارهابي. الامر الذي استغلته الادارة الاميركية في تبرير غزو واحتلال بلدان اخرى بحجة الحروب الاستباقية او الوقائية،
كما هي الحجة او الذريعة التي ساقتها الادارة الاميركية الحالية في حربها على العراق وافغانستان لتحقيق رغبة المحافظين الجدد. حيث بدأت الماكنة الاعلامية الاميركية حملتها التحريضية لتبرير حربها هذه بترويع الشعب الاميركي وبث الرعب والخوف في نفسيته، بتصويرها الاخطار الارهابية بالقادمة والمتوقعة الحدوث في اي لحظة اذا لم تكن هناك مبادرة عسكرية هجومية للقضاء على الارهاب في معقله قبل ان يزحف ويستهدف الولايات المتحدة، كما روجت لذلك الادارة الاميركية، التي استندت في ترويج حملتها بافتراض ان السيطرة على عقول الناس وافكارهم تكون عن طريق اخبارهم انهم معرضون للخطر، وتحذيرهم من ان آمنهم تحت التهديد. ما يمكن ان يطلق عليه باستراتيجية الخداع الاعلامي، التي نجح من خلالها الرئيس الاميركي جورج بوش في شن حملة اعلامية واسعة لأقناع الشعب الاميركي بضرورة خوض الحرب على العراق.
اتساقا مع ما قاله دينيس جيت عميد مركز العلاقات الدولية في جامعة فلوريدا. عندما يشعر الناس بالخطر يعجزون عن التفكير، ويمنحون السلطة للشخص المستعد لتوفير الأمان لهم، ولذلك استخدمت الادارة الاميركية الحالة الاعلامية ببراعة في التحذير من مخاطر الارهاب، وان بوش ومسؤولو ادارته رددوا اكاذيب عديدة حول امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل وعلاقة نظام صدام حسين بتنظيم القاعدة.
واوهموا الجميع بان الحرب ستكون عملية سهلة وسريعة للقوات الاميركية. ويرى جيت ان الادارة الاميركية استخدمت الوسائل الاعلامية للفت الانتباه من خلال بث بيانات صحفية واعلامية تحوي معلومات ترسخ استراتيجيتها، ونشر صور بالأحداث التي تريد واشنطن الترويج لها، وتوفير أكبر قدر من المعلومات لوسائل الاعلام “الصديقة ” التي تؤيدها،
اضافة الى اعتمادها على الدعايات الموجهة عن طريق قيام الحكومة الفدرالية بإنتاج تقارير اخبارية تلفزيونية مجهزة مسبقا، بغرض الدعاية لأهدافها التي من بينها غزو افغانستان والعراق، ثم تقوم الجهات الحكومية (وزارتا الخارجية والدفاع) بإرسال هذه التقارير الجاهزة الى شبكات الاخبار الكبرى التي تقوم بدورها ببيعها الى قنوات التلفزة المحلية التي يعتمد عليها المشاهد الاميركي العادي، والتي تبث هذه التقارير دون الاشارة الى مصدرها. ما يؤكد توجه الادارة الاميركية الى تبني سياسات ثقافية واعلامية للتصدي للإرهاب من خلال الاستثمار في مجال الاعلام.
كذلك فقد تحدث دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الاميركي السابق عن ضرورة خوض حرب الافكار لتقويض اركان الارهاب من خلال بعث فضائيات تلفزيونية واذاعية موجهة للعرب، فضلا عن دعوة الحكومات العربية والاسلامية الى ضرورة اصلاح منظوماتها التربوية والتعليمية في اتجاه القطع مع الانسياق الفكرية والقيمية التي تساهم في تفريخ المجموعات الارهابية على حد قوله.
تأتي هذه المغالطات رغم ان المقاربة الثقافية للإرهاب هي اصلا من مسؤولية الفكر العربي والاسلامي، ومن ثم مسؤولية وسائل الاعلام العربية والاسلامية قبل ان تكون مسؤولية الفكر الغربي او السياسات الاميركية، فالعرب والمسلمون هم اول ضحايا الارهاب الذي عطل مسيرتهم التنموية وساهم في زعزعة آمن واستقرار بلدانهم وتشويه منظومتهم الفكرية والقيمية والاعلامية القائمة على التسامح والوسطية والاعتدال والاعتراف بالأخر.
دكتور القانون العام محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان