أعجبني عنوان الكتاب “إخيل جريحاً” للأستاذ عبدالله السناوي الناصري المعروف والكاتب الصحفي رشيق العبارة والأسلوب .. ورغم أنني لا اميل إلي قراءة التاريخ من وجهة نظر أحادية لكنني تخليت عن ذلك من أجل المؤلف الصديق وعنوانه الفرعي في الغلاف “إرث جمال عبدالناصر” .. طبعا الزعيم الراحل لا يمكن اختصار سيرته ونظريته في 360 صفحة فقط , ولكن الهدف من العمل هو تعريف الأجيال الجديدة وخصوصاً أبناء 25 يناير بالزعيم التاريخي الذي يحظي بالمثالية والنموذجية في جيل الستينيات بينما يراه الشباب المسئول الأول عن وأد الديموقراطية تأسيساً علي عبارته الخالدة التي لا ينكرها المؤلف “لا حرية لا عداء الحرية” .. ما لم يشرحه الكتاب ان ناصر لم يكن يقصد المصريين فحتي 1967 كانت شعبيته ليست محل شك .. ولكنه قصد المتربصين بالثورة من قوي الاستعمار والرجعية العربية ..
ربط المؤلف اسم ناصر بالبطل الإغريقي إخيل فكلاهما أسطوري متشاركان في نقطة ضعف .. اليوناني كان كعبه الذي غمرته أمه بماء نهر الموت لتحصنه وبقي كعباه مكشوفان للسهام التي قتلته .. أما نقطة ضعف ناصر فكان عبدالحكيم عامر وأنور السادات .. رأيي الشخصي أنه استطاع التخلص من حكيم بتخطيط من كان يجهز البديل وهما محمد فوزي وعبدالمنعم رياض اللذان أنهيا الاعتصام المسلح في بيته بالجيزة .. صحيح أن ناصر اختلف مع عامر في حرب 1956 وفي تجربة الانفصال عن سوريا 1961 ولكن لا أحد ينكر أنه كان مطمئناً إلي ولائه له وبالتالي تأمين الجيش .. إلي أن بدأ رجال حكيم التدخل في تسيير أمور البلاد ومنازعة الاتحاد الاشتراكي اختصاصاته الداخلية .. غير أن قرارات ناصر السياسية مثل طرد قوات الطوارئ وإغلاق خليج العقبة هي التي قادت للحرب وليست ضحالة الفكر العسكري المؤكدة لحكيم..اضافة لماذكره الفريق محمد فوزي في مذكراته بانه لم ير حشودا اسرائيلية علي الجبهة السورية كما كان اعلامنا يردد وقتها..
لكنني يجب أن أتوقف أمام ما ذكره المؤلف من أن نقطة ضعف ناصر الأخري هي السادات وهو في ذلك يعتمد علي روايات الأستاذين هيكل وسامي شرف .. كلاهما له خصومه مع السادات سواء بالسجن أو الإبعاد ولا يصح في توثيق التاريخ أن تستند إلي أقوال الخصوم فقط..
طالت السادات شبهة قتل ناصر بواقعة فنجان القهوة عام 1970 .. والحقيقة أنه عندما أثار الأستاذ هيكل هذا الكلام سألت د.الصاوي حبيب طبيب عبدالناصر الخاص وكانت كريمته د.همت زميلتنا في الإيجبشيان جازيت عن احتمال وفاته بسبب آخر (سم مثلا كما قال هيكل) في واقعة الفنجان .. فنفي ذلك تماماً وقال إنه كان سيلاحظ أعراض تسمم عليه مثل قيء أو إسهال أو ارتفاع درجة الحرارة أو دوار وكلها علامات لم تكن موجودة .. كما أنه لا يعرف سماً يستمر مفعوله 3 أيام مبرمجاً علي يوم الوفاة ..
وفي حديثه مع الأستاذ حافظ الميرازي في 11 يوليو 2012 كرر الصاوي ما سبق وسمعته منه مؤكداً أن اثنين من اساطين الطب هما د.منصور فايز ود.زكي الرملي ناظرا عبدالناصر لحظة عودته من وداع أمير الكويت وأجمعا علي أنها ذبحة صدرية وظهرت أعراضها نبض سريع تجاوز المائة وعرق غزير وبرودة الأطراف خاصة الأقدام .. الأعمار بيد الله لكن قطعا لم تكن وفاته بشبهة تسمم .. فهي الجلطة الثانية في أقل من عام وعادة تكون قاتلة .. مع ملاحظة وجود مرض السكر عنده منذ 1962 والثلاثي القلب والتدخين والسكر بالإضافة إلي نمط الحياة والانفعال والتوتر وعدم الراحة جميعها أسباب لا تحتاج لتدخل اخر للإجهاز علي حياة الرجل..
كان ناصر نفسيا يشعر بأنه مسئول عن الهزيمة ولابد ان يأخذ بثأر الجيش ويستعيد كرامة القوات المسلحة ومثل هذا ضغطاً رهيباً علي أعصابه بالإضافة لأمراضه فكان القدر الطبيعي المحتوم .. الخطأ الثاني في رأيي الذي يروج له الكتاب هو اختيار السادات نائباً بدلا من زكريا محيي الدين الذي رشحه له هيكل .. هل من المفروض أن يسمع ناصر كلام هيكل بدون مراجعة .. ناصر والسادات كانا آخر الفراعنة ولم يكن من السهل علي أيهما تغيير خططه أو تفكيره .. ناصر كان حصيفا و أريبا ..
ونسي المؤلف ما ذكره هيكل بنفسه في كتبه أنه أثناء محادثات ناصر عام 1968 في موسكو يوم 4 يوليو .. ماطل السوفيت طوال 3 أيام في الاستجابة لطلب جمال بإمداده بأسلحة هجومية .. هنا هدد الرئيس الراحل بريجنيف بأنه سيعود لمصر ويتنازل عن الحكم لشخص يمكنه التفاهم مع أمريكا (زكريا محيي الدين) .. ولو كان تم هذا لمنع الروس الأسلحة والصواريخ والمقاتلات التي حاربنا بها في 1973 .. مشكلة الأستاذ هيكل وتلاميذه أنهم يتصورون رأيه فقط هو الصحيح بينما من الطبيعي أن يكون لرئيس الدولة تفكير آخر واستراتيجية أخري .. ولعل هذا هو السبب الحقيقي الذي جعل السادات يطيح بهيكل من الأهرام .. ففي اتفاق فك الاشتباك الأول المعروف باتفاقية النقاط الست اجتمع السادات بكبيسنجر بمفردهما .. وسمع الرئيس الراحل هيكل مخاطبا فوزي عبدالحافظ سكرتير السادات “ألم أقل مراراً ألا يجلس الرئيس مع كبيسنجر بمفردهما” .. السادات شعر انه تحت وصاية هيكل والاستاذ تصور انه لاشيء يسير بدونه ..
اختيار ناصر للسادات نائبا لم يكن عشوائيا لانه عرف عنه المناورة والدهاء بالاضافة لعلاقاته العربية والاسلامية كونه امينا عاما لمنظمة المؤتمر الاسلامي ابان أزمة ناصر مع فيصل وله دور لاينسي في دعم فيصل لجمال رغم مابينهما في مؤتمر اللاءات الثلاث بالخرطوم عام 1967.. رأيي أن ناصر عينه علي السادات من البداية فهو الذي اعاده للجيش بعد فصله بنفس رتبته وضمه للضباط الاحرار..
ورغم أن الكتاب شيق لكن عيبه الاستناد إلي آراء ورؤي من نفس الفصيل .. لقد كان لعبدالناصر إخفاقات متعددة لكن لا احد يطعن في طفرته الاقتصادية والاجتماعية ومشروع العدالة الاجتماعية التي لا يستطيع معارضوه الاختلاف عليها .. وللسادات أيضاً حماقات مثل سياسة الانفتاح المدمرة وسجن الصحفيين والمعارضين السياسيين ولكن لا يمكن إنكار دوره في أكتوبر التي لولاها لظللنا محتلين حتي الآن مثل آخرين .. رحم الله زعيمين كانا دوليين بمعني الكلمة حتي وأحدهما مهزوم ومحتل والآخر منتصر ومقتول بين جنوده بل وقف شامخاً ومتحدياً قاتله قبل أن يرديه .. رحم الله الجميع..