بدأت أنقرة التخطيط لوضع أقدامها في ليبيا عبر توقيع مذكرتي تفاهم بين رئيس حكومة «الوفاق» فائز السراج والرئيس رجب طيب إردوغان في 27 نوفمبر الماضي، الأولى تتعلق بالتعاون الأمني والعسكري، والثانية بتحديد مناطق الصلاحية البحرية في البحر المتوسط، إلا أنها عملياً تحضّر لهذه الخطوة منذ أتى «الربيع العربي» على ليبيا، وأسقط نظام الرئيس الراحل معمر القذافي عام 2011.
وحقاً، صادق البرلمان التركي، نهاية الأسبوع الماضي، على مشروع قرار يسمح بإرسال قوات عسكرية مدة عام لمساندة حكومة «الوفاق» التي تعترف بها الأمم المتحدة في مواجهة «الجيش الوطني» بقيادة المشير خليفة حفتر.
أدانت مصر الاتفاقيات التي وقعتها تركيا وحكومة الوفاق الليبية، وأكدت مصر أن مثل هذه المذكرات معدومة الأثر القانوني، إذ لا يمكن الاعتراف بها على ضوء أن المادة الثامنة من اتفاق الصخيرات السياسي بشأن ليبيا، الذي ارتضاه الليبيون، تحدد الاختصاصات المخولة لمجلس رئاسة الوزراء، حيث تنص صراحةً على أن مجلس رئاسة الوزراء ككل وليس رئيس المجلس منفرداً يملك صلاحية عقد اتفاقيات دولية.
وقالت مصر في بيان رسمي لوزارة الخارجية إن مجلس رئاسة الوزراء الليبي منقوص العضوية بشكل بَيّن، ويعاني حالياً من خلل جسيم في تمثيل المناطق الليبية، ومن ثم ينحصر دور رئيس مجلس الوزراء، محدود الصلاحية، في تسيير أعمال المجلس، مؤكدة أن كل ما يتم من مساعٍ لبناء مراكز قانونية مع أية دولة أخرى يعد خرقاً جسيماً لاتفاق “الصخيرات.
وذكرت الخارجية المصرية أنه في كل الأحوال فإن توقيع مذكرتي تفاهم في مجالي التعاون الأمني والمناطق البحرية وفقاً لما تم إعلانه هو غير شرعي ومن ثم لا يلزم ولا يؤثر على مصالح وحقوق أية أطراف ثالثة، ولا يترتب عليه أي تأثير على حقوق الدول المشاطئة للبحر المتوسط، ولا أثر له على منظومة تعيين الحدود البحرية في منطقة شرق المتوسط.
الأهداف التركية من التدخّل في ليبيا بصفة عامة تنبع من نقطتين أساسيتين،
الأولى تتعلّق بمحاولة خَلْط الأوراق في منطقة شرقي المتوسّط، بعد أن وجدت أنقرة نفسها معزولة بسبب الدور المصري المُتصاعِد في هذه المنطقة، ما دفعها إلى اتخاذ إجراءات أحادية، مثل إطلاق عمليات التنقيب عن الغاز في مناطق شرقي وجنوبي جزيرة قبرص،وهي عمليات انتقدتها كافة الدول المعنية بملف الغاز في هذه المنطقة. يضاف إلى ذلك توقيعها لمذكرة تفاهم حول الحدود البحرية مع حكومة طرابلس بما ينتهك المنطقة الاقتصادية لليونان، ويتجاهل وجود مناطق بين تركيا وليبيا مثل جزيرة كريت.
هذا النهج يستهدف أساساً إجبار الأطراف المعنية في المنطقة على إعادة التواصل مع تركيا بشأن ملف الغاز وعدم تجاهلها، بعد أن تمكّنت القاهرة خلال السنوات الأخيرة من انتزاع قصب السبق من تركيا، وتحوّلها إلى نقطة محورية وأساسية يتم من خلالها إسالة الغاز الخاص في كل دول شرق المتوسّط، كونها الدولة الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط عدا عن تركيا، التي تمتلك البنية التحتية اللازمة لإسالة الغاز في منشأتي أدكو ودمياط، ومن ثم تصديره الى أوروبا عبر خط (أيست ميد)، الذي سيتم تدشينه قريباً انطلاقاً من فلسطين المحتلة مروراً بقبرص واليونان ووصولاً إلى إيطاليا.
وبالتالي تحاول تركيا من خلال مذكّرتها الخاصة بالحدود البحرية مع حكومة الوفاق في طرابلس، قَطْع الطريق على عمليات إقامة هذا الخط، وابتزاز دول المنطقة لإجبارها على التعامُل مع تركيا إذا ما أرادت تصدير غازها إلى أوروبا، وكذلك الحيلولة دون ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان، وهي تشكّل تهديداً جدياً لمصر عن طريق دعم قوات حكومة الوفاق في طرابلس بشكل يُطيل من أمَد المعارك.
النقطة الثانية تتعلّق بمحاولة حلّ مُعضلة بدأت ملامحها في الظهور في المناطق التي تحتلها تركيا في الشمال والشمال الشرقي السوري، فالجيش العربي السوري على ما يبدو مُصمّم على إكمال معركة إدلب، وهو ما يعني أنه عملياً آجلاً أو عاجلاً، سيتدفّق إلى الأراضي التركية مئات المقاتلين المُنتمين إلى الفصائل المسلّحة التي تدعمها أنقرة في سوريا، وهو ما سيخلق مشكلة كبيرة وعبئاً على الداخل التركي في هذه المرحلة، لذلك وجدت تركيا في إرسال هؤلاء إلى ليبيا حلاً تظهر من خلاله كداعم قوي لحكومة طرابلس، وفي نفس الوقت تتخلّص من عبء هؤلاء على وضعها الداخلي.
الضغط الذي يمثله مسار المعارك حالياً في طرابلس على حكومة الوفاق، جعل الخيارات تتضاءل أمام تركيا في ما يتعلّق بحجم ومستوى الدعم الذي يمكن أن تقدّمه لها، في ظلّ المخاطر المُتزايدة التي تواجه وسائط نقل هذا الدعم، فالنقل البحري عن طريق السفن التجارية بات محفوفاً بالمخاطر، بعد أن بدأت اليونان والقوات البحرية التابعة للجيش الوطني الموالي لمجلس النواب في طبرق عمليات تفتيش للسفن المُشتَبه بها، ويتوقّع أن تشارك في هذه العمليات سفن تنتمي إلى دول أخرى مثل ألمانيا وفرنسا.
النقل الجوي أصبح الآن هو الوسيلة الوحيدة المتوافرة لنقل مثل هذا الدعم، مع محدودية ما يمكن نقله عبر الجو نظراً إلى صعوبات لوجيستية، ناهيك عن حقيقة أن الدعم الذي قدّمته تركيا إلى حكومة الوفاق من عربات مُدرَّعة وطائرات من دون طيَّار، لم يشكل فارقاً كبيراً على مستوى المعارك، بل قام فقط بتأخير تقدّم قوات الجيش الوطني.
أن الاستعدادات العسكرية في أنقرة كانت تهدف إلى نشر وحدة غير قتالية تتسع لما يصل إلى 200 جندي للقيام بمهمة تدريب وتجهيز، فإن ما طلبه قوات حكومة الوفاق من تركيا الأسبوع الماضي كان قوة عسكرية لأغراض قتالية تضم عناصر برية وبحرية وجوية.
إن تلبية هذا الطلب يتطلب نشر عناصر جوية تتألف من ست إلى ثمان طائرات حربية من طراز F-16 Block 50، ونظام إنذار مبكر ومراقبة محمولة جوًا AWACS، وعناصر بحرية تتكون من فرقاطة، واثنين أو ثلاثة زوارق حربية، وغواصة أو غواصتين للاستعداد للهجوم البحري، وقوة برية لا تقل عن 3 آلاف جندي.
وتتجه تركيا في عهد أردوغان إلى الإسراع في تنفيذ مخطط قديم تم إحياؤه عقب «الربيع العربي» والمتمثل في دعم توسيع النفوذ التركي في العالم العرب والإسلامي. واعتبر المغرب العربي البوابة الرئيسية الذي تعزز النفوذ التركي من خلالها. ولعل سرعة تمرير حكومة أردوغان اتفاق التعاون الأمني مع حكومة الوفاق الليبية عقب الاتفاق البحري يشير إلى دلالة واضحة على رغبة تركية جامحة في استقطاب ليبيا.
وزادت مساحة النفوذ التركي الاقتصادي في بعض دول المغرب العربي بعد صعود أحزاب الإسلام السياسي في بعض دوله وعلى سبيل المثال يعتبر السبب الرئيسي وراء الزيادة الحادة في الصادرات التركية إلى بعض الدول العربية منذ 2011 هو أن «الربيع العربي» قد أثر سلباً على الوضع الاقتصادي للدول، وساعد على تحول في العلاقات السياسية بين تركيا وهذه الدول.
ولذلك فإن إصرار تركيا على التقارب مع ليبيا حتى وإن اقتضى إرسال قوات عسكرية من أجل الاستعراض على الأغلب، تبرره المصلحة المالية وتحقيق تفوق تجاري، ولهذا السبب تعمل السلطات التركية على زيادة فتح أبواب السوق الليبية أمام البضائع التركية. ولكن ليس هذا المبرر الوحيد لزيادة الدعم التركي للسراج و«الإخوان» في ليبيا، فتقديم الأتراك لدعم من شأنه أن يساعد على بسط نفوذ «الإخوان» واستمرارهم في السلطة يُمكّن في النهاية من تعزيز ولاء أصحاب صنع القرار في طرابلس لأنقرة.
دكتور القانون العام ومحكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان