ظل شرق البحر المتوسط بعد الحرب العالمية الثانية ساحة لصراع موسكو وواشنطن عليه , لكن أمريكا استأثرت بالتفوق لأسباب كثيرة .. أول مواجهة عربية أمريكية كانت عملية “الخفاش الأزرق” التي احتل فيها الاسطول السادس الأمريكي لبنان لمدة يوم 100 بناء علي استدعاء كميل شمعون الرئيس اللبناني في ديسمبر 1958 حيث كان مساندا لحلف بغداد ضد الرئيس الراحل عبدالناصر.. كادت تندلع حرب أهلية بين المسيحيين والمسلمين حيث طالب السنة رئيس حكومتهم رشيد كرامي بتأييد ناصر ونادي الموارنه بتدخل الأمريكان متذرعين بوجود أسلحة في أيدي مؤيدي الجمهورية العربية المتحدة الوليدة ..
استجاب إيزنهاور فورا لشمعون وقال جملته التي دخلت التاريخ “البحر المتوسط بحيرة أمريكية” .. ورد ناصر “بل بحرا عربيا إفريقياً وأوروبياً”.. نزل 14 ألفا من جنود المارينز للبنان داعمين لشمعون ضد المعارضة .. كما تدخل الأسطول الأمريكي أيضاً في الحرب الأهلية اللبنانية وقصفت البارجه نيوجيرسي الضاحية الجنوبية لبيروت ومواقع المقاومة الفلسطينية ولم يخرجوا إلا بعد تفجير انتحاري أدي لمقتل 241 امريكيا 1983.. كما شن الأسطول عدة هجمات ضد ليبيا القذافي وقصف معسكرات العزيزية إبريل 1986 وفي أعقاب الربيع العربي كان للأمريكيين المساهمة الأكبر في القضاء علي القذافي وساهم من بعيد في إسقاط نظام صدام حسين..
كان الروس يراقبون بصمت عربدة البحرية الأمريكية في المتوسط انطلاقاً من مبدأ توازن القوي الذي استقر أثناء الحرب الباردة وانفرد فيه الروس ببحر قزوين والبلطيق والبحر الأسود..
لكن الأسطول الروسي ظهر بقوة عقب الحرب في سوريا وتدخل لمؤازرة الأسد في مواجهة المعارضة ضده وتشكل حلف روسي إيراني سوري في شرق المتوسط اعتباراً من 2015 وأصبح لموسكو قاعدة بحرية دائمة في طرطوس وعاد التوازن العسكري بعد تهور أمريكي بقصف مواقع الجيش السوري تأييدا للمعارضة الممولة عربيا وغربياً.
لكن معادلة القوة في منطقة المتوسط عادت لتوازن ما يسمي عسكريا بالسكون الاستراتيجي حيث يصنف الردع الآن كصمام أمن للمنطقة بعد دخول مصر أيضا كلاعب ذي ثقل ملحوظ في البحرين المتوسط والأحمر ..
نجاح روسيا في الحفاظ علي نظام حكم بشار الأسد وفشل أمريكا وتعثر مشروعها في العراق وانشغالها الحالي بإيران نقل الصراع إلي منطقة أخري هي المجال الاقتصادي خصوصاً بعد اكتشاف ثروات طائلة من الغاز والبترول في مصر وقبرص واليونان وإسرائيل ولبنان .. ليس بالضرورة أن يكون محرك توازن القوي في أي منطقة عسكريا ولكن يحدث عندما تحقق دولة ما أو تحالف صحوة اقتصادية , فتسعي دول أخري لمنازعتها في مكاسبها بالبلطجة أو باستخدام سياسة المصالح التي غالبا ما تنتصر علي المبادئ .. وهذا ما يحدث من تركيا الآن ..
فقد استغل أردوغان دعوة السراج رئيس حكومة الشرعية المنقوصة في ليبيا للتدخل عسكريا لحمايته من حفتر والجيش الوطني الليبي , فكرر ما سبق أن فعله قبل 62 عاما كميل شمعون اللبناني من استدعاء المارينز الأمريكان لحمايته..
قبل أن أتطرق لفشل التوقيع علي مسودة الاتفاق الذي أعده الجانبان الروسي والتركي وساقوا حفتر إليه يهمني الإشارة إلي أن صداقة موسكو للقاهرة وصفقات السلاح بينهما لا تلغي تحالفاً اقتصادياً نشأ بين الروس والأتراك لمد خط غاز عملاق من روسيا لتركيا يتم التصدير منه لأوروبا .. وبالتالي فإن دخول قبرص واليونان (حلفاء مصر) مع إسرائيل في إنشاء خط آخر لنقل غاز تل أبيب إلي أوروبا بعد إسالته في مصر التي تملك محطة الإسالة الوحيدة بالمنطقة , جعل موسكو تنحاز إلي الموقف التركي ولو ظاهرياً رغم أن لها موقفا محددا وواضحا من الإسلام السياسي والإخوان..
مصر راقبت بهدوء وتحفز التسريبات الصادرة عن مسودة الاتفاق وبدأت الخلايا الدبلوماسية والمخابراتية تعمل علي قراءة ما بين السطور , فوجدت أن أعلاه مغدق وأسفله محرق .. فكيف يكون لحفتر مهمة مكافحة الإرهاب , في نفس الوقت الذي سيسمح فيه لبعض الميلشيات بالاحتفاظ بأسلحتها .. وكيف تتواجد مرتزقة مسلحة مع جيش وطني .. وضع يشرعن الارهاب .. ووجدت مصر أيضا أن الاتفاق ينص علي تجميد إرسال قوات تركية حالياً , فماذا عن الذين وصلوا فعلا .. لا نصا صريحا يشير إلي ضرورة الانسحاب التركي..
يبدو الأمر لي أن روسيا وتركيا يعاقبان مصر لأسباب اقتصادية .. كما أن الاتفاق لا يهدف للتهدئة وإنما إلي “محاصصة” تركية روسية لثروة ليبيا المعدنية .. كما أن الهدنة تسعي لنقل الميلشيات من وضع الهزيمة إلي وضع الانتصار ودعوة الجيش الوطني للتراجع عن المناطق المحررة وتمكين الإرهابيين والإخوان من مربعات أمنية تخضع لسيطرتهم في العاصمة وبقية الشريط الساحلي وتحويلهم لقوة فاعلة في مراكز نفوذهم .. روسيا بعد أن أصبح لها موطئ قدم دائم في سوريا تشجع تركيا علي الانسحاب من الأطلنطي .. والأغا التركي سيفعل أي شيء فيه مصلحته الاقتصادية .. من هنا كان التنسيق مع حفتر حتي لا يوقع اتفاق الاذعان ..
مصر ستحضر مؤتمر برلين حول ليبيا وينبغي التنبيه إلي أن خريطة جديدة للمنطقة يجري رسمها الان ولا ننصح بالتردد أو المواءمة في القرار السياسي المصري الذي ننتظر منه تنسيقا عاجلا مع الجزائر وتونس (دول الجوار) وإيطاليا الظهير الاقتصادي التقليدي لليبيا .. الاقتحام فرض عين الآن وليس غداً..