دوائر صنع الرأي الغربي والامريكي – على رأسها الاعلام- يأبى اغلبها التطرق للشأن العربي الا عبر نظرة محدودة ترفض الاستيعاب خارج حدود منطقها الذي قد يبدو مقبولا في اطار منظومة الرؤى الخاصة بها سياسيا وآمنيا.. لكنها قطعا بعيدة كل البعد عن الواقع العربي، بل اثبتت فشلها الذريع عند التطبيق على ازمات الشرق الاوسط. على رأس هذه الملفات جذور وطبيعة العلاقة بين المؤسسات العسكرية الوطنية وشعوبها في المنطقة العربية، فالجيش الامريكي – مثلا- تعود جذور افراده الى مختلف دول العالم، في هذا الاطار لم يكن غريبا ظهور “شركات” آمنية تعتمد على المرتزقة اشهرها “بلاك وونر”وغيرها.
البداية وراء ظهور هذه المجموعات سواء كانت مادية او تتستر خلف قشور عقائدية بهدف حمايةظام ناشئ كما حدث بعد الثورة الايرانية وتأسيس الحرس الثوري كقوة موازية للقوات المسلحة النظامية. مع مرور الوقت تعددت افرع هذا الحرس ولم يكن غريبا تحوله الى اكبر قوة عسكرية، سياسية، اقتصادية. فيلق القدس -احد افرع الحرس الثوري- اختصت مهامه بتصدير هذا النموذج الشيطاني للدول وتمكن بالفعل من تطبيق هذا التقسيم بين القوة الآمنية النظامية والميلشيات داخل مجموعة دول كالعراق، لبنان، اليمن، بالاضافة الى المشاركة بقواته الخاصة في سوريا. بعد عقود من التحولات والفوضى التي عمت هذه الدول.. يبرز السؤال حول ردود افعال الحراك الشعبي الذي يسود هذه الدول تجاه هذه الميلشيات.
الاختبار الاول جاء من بلد المنشأ.. ايران حاليا تجلس فوق بركان موجات احتجاج شعبي تنطلق عبر فترات متقاربة، لعل اخطر اشاراتها ارتفاع سقف غضب الشارع من الشق الاقتصادي الى اهتزاز ثقة الايرانيين في “حرسهم الثوري”، بل رفضه الطريقة التي تدار بها الامور ما عكس مؤخرا حجم التضارب والخلاف بين اجهزة بلدهم.. جيش تقليدي اصبح محدود القدرات منذ عام 1979 وحرس ثوري اثبت فشله خلال ثلاث مواقف متتالية حين عجز عن حماية اقوى رجاله من صواريخ امريكا، تلاه رد لم يرتقي الى مستوى التصريحات النارية التي اطلقتها ايرأن ولم تتناسب مع الصواريخ التي اطلقت على قاعدة عين الاسد وتوصف “بالغبية” سبق استخدامها خلال الثمانينات خلال الحرب العراقية-الايرانية، ثم تعمق الجرح في صورة النظام والحرس الثوري مع فضيحة الخلاف الذي احتدم بينهما عند معالجة الخطأ الثالث الذي اسفر عن مأساة سقوط طائرة مدنية اوكرانية. السقطات حطمت “الهالة” العقائدية المقدسة التي احاطت بها هذه الميليشيات نفسها لكسب عطف المزاج الايراني العام.. لم يمضي سوى 48 ساعة بين حشود البكاء والتهديد عند تشييع جثة قاسم سليماني في مدينة كرمان، ومشاهد تمزيق صوره في سائر المدن الايرانية التي انفجرت بالاحتجاج ضد الدولة والحرس.. دليل صارخ على حدوث تغيير كبير في التوجه الشعبي لم تصمد امامه “ورقة توت” المظلومية والعقائدية التي اخفت بها الميليشيات عوراتها وجرائمها البشعة.
الاختبار اللبناني ايضا ظهر امام العالم.. حزب الله – ميلشيا لم تخفي تبعيتها لايران- تمكن بعد الحرب اللبنانية الاسرائيلية عام 2006 من مضاعفة مساحة مكاسبه السياسية عبر تحالفات مع كتل وقوى لبنانية اتاحت له اليد العليا في رسم المشهد السياسي حتى بقوة السلاح كما حدث في عدة مواقف وصلت الى فرض رئيس جمهورية وتحقيق الاغلبية في مجلس النواب. حسن نصر الله رجل يقف على رأس حزب وميليشيا في بلد كان يوصف بانه “عروس الشرق الاوسط”.. نتيجة توحش نفوذه تحول للاسف الى بلد يملأ شعبه الساحات والشوارع رفضا لسيطرة حزب نصر الله وميليشياته على المسار السياسي والاقتصادي، في المقابل. سرعان ما عادت مظاهر العنف ضد المتظاهرين السلميين من عناصر حزب الله عقابا على خروج اللبنانيين منذ اشهر للمطالبة بحكومة “تكنوقراط” مستقلة عن التبعية لايران.. قادرة على فرض حلول اقتصادية عاجلة. حزب الله تراجع عن دعم حكومة حسان دياب بعدما اقترب من تاليف حكومة تكنوقراط خلافا لما توقعه الحزب من فرض حكومة سياسية وفق شروطه وتحالفاته الحزبية، فلجأ الاخير الى عرقلة مسار التأليف ليعيد حساباته بعد مقتل سليماني حيث لم يعد يقبل الا بحكومة ذات ولاء كامل قادرة على تأكيد شرعيته القانونية وتغطية ممارساته التي فجرت غضب الشارع اللبناني. الرد الايراني الهزيل على مقتل سليماني وضع حزب الله في حرج امام حلفائه في لبنان.. اذ اعادت صورة المشهد الحالي الى الاذهان الاشتباكات التي حدثت عامي 2008 و2011 نتيجة مطالبة الشعب نزع سلاح حزب الله ووضعه تحت تصرف الجيش اللبناني.. كما عاد شعار “لا للدولة داخل الدولة” يتصدر ساحات الاعتصام. دليل جديد يثبت فشل تصدير النموذج الايراني في المساس بالقوى الامنية الشرعية.
على مدى ثلاث اشهر يسود المشهد العراقي اقوى موجات الغضب الشعبي ضد الاحتلال الايراني المسيطر على كل مقدراته. على رأس اسباب تمسك متظاهري الساحات المختلفة في العراق بمرشح مستقل يتولى رئاسة الحكومة هو قطع الطريق امام كل المحاولات الفاشلة لفرض “لعبة” تدوير نفس وجوه النخبة الحاكمة الفاسدة التي يصر العراقيين على اسقاطها. رسائل الشارع بدت واضحة الاتجاه نحو دعم الجيش العراقي، بعدما بلغ نفوذ الميليشيات الموالية لايران ممارسة جرائمها واستعراض سلطاتها في تحدي سافر للمؤسسات الامنية الشرعية، بل عمدت الى تهميش الاخيرة وفق “المسخ” المشوه الذي خلقته قوات الحرس الثوري في ايران وقامت بتطبيقه في العراق. لم يكن مثيرا للدهشة انحياز المتظاهرين الى قادة جبشهم الوطني بعد بطولاتهم خلال الحرب على تنظيم داعش، على رأس القادة الفريق عبد الوهاب الساعدي قائد قوات مكافحة الارهاب الذي اقصي بطريقة لا تتناسب مع بطولاته ومكانته الشعبية نتيجة ضغوط قيادات بعض فصائل الحشد الشعبي لاستبدال الساعدي وتعيين شخصية مقربة من ايران.. بالتالي لن تصبح قوات مكافحة الارهاب عقبة امام تلك الفصائل.
كل الاختبارات اثبتت مؤخرا فشل فرض نموذج – دولي او اقليمي- على عقيدة الجيوش الوطنية.. بل ضاعف من ازمات هذه الدول وزاد نيران صراعاتها اشتعالا.