” حاولت أن أبتعد لكن… دون جدوى.”
هكذا كانت رسالة (رحيل) الأولى والأخيرة إلى الإنسان الذي استطاع أن يتسلل إلي قلبها دون استئذان ويزرع نبتة الحب الصادق النقي بداخلها.
ظل تأنيب الضمير من زوارها الدائمين صباحا ومساء. كيف لا وهي التي اختارت أن تكون سفيرة الإنسانية والحب وحقوق البشر في كل مكان ثم هي بعد ذلك لا تخوض تجربة الحب.
لكن لحظة.. ليت الأمر بيدها لقد كتب عليها ألا تختبر وتعيش تلك اللحظات الرومانسية التي تحلم بها كل فتاة في عمرها بأمر الطبيب.
كل هذا الجمال كل هذا الحنان المتدفق والحيوية والمشاعر الجياشة باتت حبيسة مقهورة منذ اللحظة التي عرفت فيها الحقيقة
حقيقة مرض القلب لديها..
حين صارحها الطبيب بأن أيامها في هذه الحياة قد أصبحت معدودة، وأنها ستنتهي في أية لحظة بسبب هذا المرض الذي لا برء منه
كانت صدمة رهيبة ولا شك لكنها ..كانت راضية.. كانت راضية بأن تمكن الآخرين من الرسو على بر السلامة محملين بالسعادة والدفء واكتفت هي بنظرات الامتنان في أعين من أوصلتهم عائدة من كل رحلة وفي عينيها صورة سفينتها المعطلة علي الشاطئ بلا شراع
كانت (رحيل) طالبة الإعلام متفوقة تتحدي المستحيل، ولم يقف المرض بينها وبين قفزات التفوق والإبداع التي أنجزتها في حياتها، وخرجت للدنيا لتحتل مكانة كبيرة في القلوب التي عشقتها، فكان لها ابتسامة مشرقة ولسان عذب، واعتمد الأهل والأصدقاء عليها والقراء في حل مشاكلهم المعقدة، وكانت تعيد الاطمئنان إلي قلوبهم المعذبة، وتزيدهم حبا للحياة.
ولم يمنعها المرض من عملها المحبب في الصحافة، فظلت تكتب وتكتب، فكان الحب والأمل والعطاء مذهبها وسلوتها.
ولم تعترف بالمستحيل يوما، لذا بدا وكأن المستحيل ينتقم لذاته منها، ويضعها أمام حلمها الذي طالما راودها في اليقظة والأحلام
ندوة كبيرة تضم الأدباء، و(رحيل) تسطع وسط محبيها كعادتها وعبارات الثناء تنهال عليها من المعجبين
إلا هو..
أذهل الحاضرين بنقده اللاذع الموجه ل(رحيل) قدم نفسه: أمجد البشبشاوي.. اسم مميز ونقد في غير محله
أمجد هذا من اشد المعجبين ب(رحيل)
صعق اصدقاؤه بكلماته عكس ما كان يبوح برأيه عنها
ظلت الأعين معلقة بهذا البشبشاوي وزاد من دهشة الأصدقاء هذا اللقب الغريب الذي أضافه لاسمه، وظل يتحدث وينتقد في ذهول من الحاضرين
إلا (رحيل) نفسها.. ظلت عيناها معلقة به.. نفس الملامح التي بداخلها لفارس أحلامها..
نفس نبرة الصوت التي لم تسمعها إلا في أعماقها..
حتى ابتسامته التي يخفي خلفها قصة كبيرة، لا يعرف خباياها إلا من صنع سطورها بداخله
هذا الأمجد البشبشاوي يتحدث، وصوت الطبول في أذن (رحيل) يغطي علي كل شيء..
إلا ملامحه.. وروحه..
سر روحاني ربط في التو واللحظة بين قلبين
وبالفعل كان امجد من اشد المعجبين بالكاتبة، ولكن أين مكانه وسط هذا الحشد من المعجبين، وعبارات الثناء ففكر في دهاء للوصول إليها بشعار “خالف تعرف..”
فيفوز بلقاء في الجريدة، ويتعرف إليها عن كثب..
ويتأكد من مشاعر ظلت تطارده من وقت ليس بالقصير
ولهذا افتعل كل هذا، وأخذ يصب نقده علي أجمل وأرقي ما كتبت من سطور طبعت في قلبه من شدة الإعجاب
أما (رحيل) فقد انتابها شيء من القشعريرة فبرغم كلماته الجامدة اللاذعة شعرت بأن ملامحه تتخللها تمنت لو يطيل الحديث..
تشوقت أن تعرف المزيد عنه..
شعور لم يراودها طوال حياتها..
فابتسمت تحيي فيه الصراحة، وتوافقه علي موعد في الجريدة لتناقش آراءه، لعلها تستفيد بحسها المتواضع
وابتسم بدوره..
ما كان يطمع في أكثر من هذا..
وفي الموعد المحدد كانت (رحيل) في الجريدة شاردة الذهن نابضة الفؤاد بدقات ممزوجة بأشياء لا حصر لها..
تمنت ألا يخلف الميعاد..
تهمس بداخلها: سأكتفي بأن أراه..
سأكتفي بأن أتذوق الأمل..
سأعيش بداخلي حلمي الحبيس..
لن تري مشاعري النور..
لن يلمحها أحد..
سأخفي عنه أنها حلمي الذي هربت منه عمري كله ليتجسد أمامي، ويبتسم المستحيل في تحد في جولته الأخيرة.
وفي الموعد المحدد لاح طيف أمجد في خيالها مع طرق الباب يستأذن في الدخول.
دارت الدنيا برأسها وهي تستقبله بترحاب، وعلي شفتيها ابتسامة هادئة.
وتراجعت المخاوف، وأصبح القلب سيد الموقف. .
دخل بخطواته الواثقة، وسمرة وجهه النضرة ، وحياء يكسو ملامحه، ولمعان عيناه السوداوين، يميزهما بريق ذكاء حاد وخفة ظل لا حدود لها.
وكشفت لهجته وبعض عباراته من انه ينحدر من أصل ريفي تستشعر فيه النخوة والشهامة والوضوح
وبدأ برد التحية ملحقة بالاعتذار وباح بكل ما في خلده من حب وتقدير وأفصح عن شعاره “خالف تعرف” وتفوز بموعد مع الكاتبة المفضلة التي كانت نجمة يحلم بان ينزل علي كوكبها، وتشاركه الحياة بحلوها ومرها
واعترفت بدورها بأنها لم تغضب من نقده اللاذع، وتبادلت معه بعض الأحاديث المتشعبة ومر الوقت كلمح البصر وجاء موعد الانصراف فودعته علي وعد بلقاء جديد
وعند الباب الخارجي التقت بالصديقات لتكتشف عطل بسيارتها وكانت مشتتة الذهن وهي تراقب أمجد وقد أقلته سيارته ليغيب في الزحام، وأفاقت علي نظرات الصديقات تحيط بها، وتنبهها في تساؤل غير معلن عن سر شرودها، فتماسكت، وتظاهرت بانشغالها في العطل الذي لحق بالسيارة. وفي الصباح التالي استيقظت من مرقدها، تتجاذبها سخونة وبرودة وأفكار مشوشة، تصب عليها الماء صبا تكاد تغرقها.
وفجأة دق ناقوس الخطر بداخلها، يحذرها من العوم في الغريق، شعور من نوع خاص بدأ يهاجم قلبها العليل..
شعور من نوع خاص بدأ يهاجم قلبها المريض، جعلها ترفض بإيعاز من الضمير أن تتمادي بالمزيد من التقرب إلى أمجد. ولكن التراجع والخوف جاءا متأخرين، بعد أن تمكنت مشاعر خفية من السيطرة عليها، وشلت كل إرادة للتراجع أمام حلم فارس الأحلام
هكذا العواطف الصادقة تسلب الإنسان الإرادة في التراجع عن الحب والعطاء والتضحية للطرف الثاني .. وحسم عقلها هذا الصراع..
إنه حب وعطاء بلا أمل، وعليها التضحية بنفسها ومشاعرها من اجل الفارس الذي ظهر ملأت صورته وجدانها .. فكان عليها أن تغلق عينيها وقلبها علي صورته للأبد.
وبدأ الشحوب يكسوها
فأصعب ما يقهر الإنسان حرمانه من مشاعره المستحيلة. والمستحيل قد يتراجع لأسباب عديدة، والنتيجة واحدة..
الدمار للعواطف النبيلة..
والحق المشروع المكبل بالتضحية..
وهكذا عاشت (رحيل) بضع ايام كأنها الدهر كله، محاولة باستماتة أن تحصن نفسها من الرغبة في سماع صوته، أو السماح لشقيقته التي هاتفتها، وصرحت لها برغبة أمجد في مقابلة أسرتها، وكيف يعيش في حلمه الوردي بهذه المقابلة..
ظلت تحصن نفسها، وتقوي قلاعها المرتجفة، التي هوت بمجرد أن وجدته أمامها، وقد ارتسمت علي وجهه الشاحب حيرة شديدة، وعيناه تستجديانها أن تفسر له اللغز.
وذهبت كل محاولة للهرب من المواجهة، وكان يوم بكت بكاء لم تعهده في شخصيتها القوية دائما، الضعيفة المرهفة حين يتعلق الأمر بمشاعرها الخاصة جدا.
وأخيراً خرجت عن صمتها، ومن خلال دموعها الساخنة، اعترفت بعواطفها الصادقة، وبرغبتها في أن تظل طوال عمرها بجانبه، ولكن الظروف اقوي من رغبتها المقهورة، وتوسلت إليه أن يساعدها في محنتها..
محنة باطنها قطرات الندي التي نزلت علي زهرتها، بعد أن أوشكت علي الذبول..
بعد أن سيطرت عليها مشاعر تجري في دمائها، ولن تفارقها إلا مع آخر قطرة في الوريد
وظل الفارس ساهم بعد أن سلب منه الحصان والسيف، ولم يبق معه إلا غصن الأمل، وحيرة تندلع في فشل ذريع، وهو يحاول أن ينتزع منها سر حياتها دون جدوى..
فضلت أن تحميه من مرارة ما يحتويه قلبها المريض..
أصبحت تستحضره كطيف..
تستمد منه الغذاء الروحي؛ لتواصل نشاطها اليومي..
لكن البعد لم يزدها إلا اقترابا.
وذات مساء من أمسيات يناير الباردة، كانت (رحيل) منهمكة في وضع نهاية لإحدى قصصها، وإذا بالساعي يخبرها بانتظار أمجد بالسيارة بالخارج، فطلبت منه أن يعتذر منه نيابة عنها، لانشغالها الشديد، ولم يكن هذا الاعتذار إلا هروبا من المواجهة..
فكان فجر هذا اليوم غير أي فجر..
وكان المساء غير أي مساء..
وكان الغروب يطل من عينيها..
وكان كل شيء بداخلها قد تضاعف..
فكان الحب اكبر من أن يحتمله قلبها الضعيف، وأصبح الخوف وتأنيب الضمير يمزقانها ويدور بخلدها ألف سؤال وسؤال
وتنبهت علي خطواته، فكان كعادته يطرق الأرض بقدميه لينبهها بوجوده، وهو مبتسم متهلل كعادته
باغتها قائلا:أريد أن أتحدث إليك في موضوع..
أجابت:أنا الأخري كنت انوي هذا..
أمجد إن المستحيل له ألوان عدة، وكثير ما نتباهى بأننا نتخطى المستحيل..
ولكن لابد أن نعترف بأننا أحيانا نستسلم للمستحيل..
يمزقنا دون أدني محاولة لاجتيازه، وهذا ربما لحماية شيء أغلي.. كحب طاهر ونقي نحميه من ألم الفراق.
لم يستوعب أمجد اللغز، وظل واجما، واحترم رغبتها في الصمت.
ظلت صامتة، وظلت عيناها تتوغل داخل أعماقه؛ عسي أن يرحمها، ويستوعب حروفا لم تنطقها، ولن تبوح بها، فكثير من المشاعر الصادقة تظل حبيسة في الأعين لآخر العمر..
ومن يعي لغة الصمت إلا عيون لقلوب ملأها وفاض الحب النقي في جنباتها؟
فی الصباح الباکر، استیقظ أمجد، وأعد لنفسه فنجانا من القهوة، وتناول الجريدة ليقرأ مقال (رحيل) الجديد، فتسمرت عيناه علي ثلاثة سطور فقط، وصورة (رحيل) كشفت عن سر عذابها وقد فارقت الحياة بقلبها العليل المحب، تاركة رسالة تبث فيها أملا لكل المحبين الذين فرقتهم الدنيا، وهزمهم المستحيل، وإن تعددت الأسباب بأن اللقاء سيكون في مكان أسمي من دنيانا الزائلة.
1 تعليق
هشام
روعة القصة كالكاتبة تماما
أعجبني عدم استسلام الفتاة للمرض
ومواصلتها لنجاحاتها
وهو ما يفتقده كثير من شباب اليوم