”كل كاتب وكل حكيم والذي ذهب إلى المدرسة إذا مر بهذا القبر وتعامل بالبر وصلى صلاة القرابين، فسأعمل من أجله في الحياة الأخرى”. وجد هذا النص مكتوبا على قبر حاكم أسيوط في زمن حكم الاسرة الوسطى للمصريين القدماء ،ووذكرت فيه لأول مرة كلمة مدرسة بالمصرية القديمة (قاعة الدرس).
ويقول الكاتب والمؤرخ الألماني هيلموت برونر في كتابه القيم ( التربية والتعليم عند المصريين القدماء ) الصادر بالغة الألمانية عام 1957 أن كاتب النص وجه كلامه بشكل مقصود إلى الذين يقرأون والموظفين والحكماء، وهو ما يدل على بدء التعليم بشكل جماعي في مصر منذ اكثر من 5 الاف عام.
وقد ترجم الكتاب إلى العربية المترجم مصطفى عبد الباسط ونشره المركز القومي للترجمة عام 2011. وحرص المترجم على تأكيد أهمية مضمون الكتاب فكتب في المقدمة يقول : “والكتاب جرىء في أحكامة وموضوعى في عرضه للوقائع، وهو يتناول الموضوعات الجوهرية في لب التربية والتعليم من حيث المنظومة التعليمية ودورها في تشكيل هوية التلميذ وتعليم الفتيات، كما يعرض الأساليب التأديبية من عقاب وتحذير ومدح وترغيب، علاوة على شرح واف لنظريات التعليم عند المصريين القدماء”.
وقد أثبت هيلموت بعد البحث الدقيق أن المصريين القدماء أول من عرف نظام التدريس الجماعي بالمدرسة فكتب يقول :” في الدولة الحديثة بدا مشهد أوضح لشكل المدرسة لدى المصريين القدماء، إذ وجدت نصوص مدرسية حقيقية على أوراق البردي والقطع الحجرية والألواح الخشبية، كما وجدت كراسات لواجبات مدرسية داخل الحصة، وعُثر أيضًا على برديات توضح بعض نظريات التربية والتعليم وتُرغّب التلميذ في التعليم من أجل الوصول إلى مراتب عليا في القصر الملكي، وأغنيات تغنّوا بها للمعلم عرفانًا له”.
وأكد هيلموت أن المصريين القدماء عرفوا منذ الآف السنين الكتاب المدرسي ( الذي يوجد توجه للاستغناء عنه في الوقت المعاصر) قائلا :”عُرف الكتاب المدرسي وسُمي (كيميت) وهي كلمة فرعونية بدأ استخدامها من الاسرة الثانية عشرة”. ونقل هيلموت عن وثيقة لـ “خيتي بن بيبي” إشارات واضحة عن الكتاب والمنهج قائلا :” بعد العودة من المدرسة ظهرًا، حيث وقت الانصراف، فكان علي المتعلم أن يهتم بكتاب المدرسة كيميت وهو تعليم أساسي، يليه تعليم آخر يصاحب فيه التلميذ موظفين أو حرفيين حسب اختياره، بل المفارقة الأكبر أن المصري القديم كان يقرأ في المراحل الأولى التعاليم الكلاسيكية، ثم يتناول الخطابات الرسمية والحسابات والضرائب، كما وُجِد تعليم رياضي “.
وقد حرصت على التعرض لنظام التعليم عند أجدادنا مع بداية العام الدراسي الجديد 2020/2021 لكي يعلم القائمون على العملية التعلمية أن مصر تمتلك منذ الآف السنين نظم تعليمية متميزة تمكنت من تخريج كوادر علمية وثقافية وفكرية وحرفية واعية ساهمت في بناء حضارة لا تزال شواهدها قائمة حتى الان، ولا يزال العالم بأسره عاجز عن فك أسرارها .
ولكي نتأكد أننا لسنا في حاجة لإستيراد مناهج تعليم أجنبية أو الإستعانة بخبراء أجانب لا يعرفون طبيعة المصري ولا هويته ولا قيمه ولا تاريخه ولا عاداته وتقاليده . وأردت توجيه رسالة للقائمين على العملية التعليمية أنه يوجد في مصر المعاصرة أحفادا للأجداد قادرين على وضع وتطوير وتنفيذ نظم تعليمية تعتمد أساسا على بيئتا الوطنية وتعبر عن هويتنا الذاتية وفي الوقت نفسه تدرك الجديد لدى الآخرين في الدول الأخرى وتعمل على الإستفادة منه .
ولست وحدي صاحب تلك الرؤية الوطنية الخالصة في التعليم ، واعتقد أنه يشاركني في هذه الرؤية كثيرون من عاشقي مصر ومنهم مترجم الكتاب مصطفى عبد الباسط الذي حرص على توثيق أهمية الكتاب وضرورة نقله للعربية فكتب في المقدمة يقول :” هذا الكتاب يثير تساؤلاً مهماً يخص التربويين والأثريين والقارئ العام. فالقدماء المصريون الذين بهروا العالم – ولازالوا يبهرونه بما أنجزوا – جديرون بأن نتعقب أسلوبهم في التربية والتعليم، الأسلوب الذي شكلوا به شخصية المصرى العبقرى الذى أسس حضارة لا زالت شواهدها قائمة حتى الأن “.