إن العلاقة بين المواطن ووطنه علاقة جدلية حميمة، تجد جذورها في الوِجدان والعاطفة، كلاهما بحاجة إلى الآخر؛ المواطن بحاجة إلى وطن يقدم له الحماية، ويصون له حقوقه المدنية والسياسية والاجتماعية، والوطن بحاجة إلى مواطنين يدافعون عنه ويحمونه ممن يريدون به سوءًا، هذه العلاقة الجدلية إذا أخذت مسارها الصحيح، تجعل المواطن مهما كانت مشاربه وتوجُّهاته الفكرية والثقافية والسياسية، مستعدًّا بالفطرة للدفاع عن وطنه.
يثير مفهوم الهوية في أبعاده الثقافية و الفكرية و السياسية والدينية أسئلة شائكة ً لكونه من أكثر المفاهيم إثارة للجدل والنقاش بين مختلف الباحثين والدارسين. ورغم تعدد زوايا النظر إلى مفهوم الهوية، فإن هناك اتفاقا عاما على أن مسألة الهوية ليست معطى جامدا ً و ثابتا و إنما هي معطى تاريخي خاضع للتأثر والتأثر، ومن هنا ضرورة إعادة البحث في ماهية الهوية ومقوماتها وفق ما يفرضه الواقع من تحديات . ولاشك أن ضبط علاقة الإعلام بالهوية من القضايا الهامة التي استأثرت باهتمام مختلف الباحثين والدارسين وفي مقدمتهم السياسيين والإعلاميين.
فقد كشف النقاش السياسي والإعلامي على أن دور الإعلام لم يعد مقتصرا على وظيفته التقليدية في النشر وتعميم الأخيار والتأثير في الرأي العام وتوجيهه ، بل تجاوز ذلك إلى القيام بوظائف جوهرية ومنها على الخصوص تحريك سؤال الهوية وطرح قيم المواطنة والثقافة السياسية وغيرها، خاصة في ظل التحولات التاريخية الهامة التي شهدها المجتمع العربي في السنوات الأخيرة.
الخطاب الثقافي في مصر ليس واحدًا، وإنما مجموعة خطابات ثقافية متنوعة، بتنوع الظروف والبيئة والعادات والتقاليد الاجتماعية من الصعيد للدلتا، لكن الخطاب الثقافي محل الطرح في التحقيق هو الخطاب الثقافي السائد أو الغالب الذي يندرج تحت مظلته عدة خطابات، الإعلامي، الديني، السياسي، وغيرهم. إذا تحدثنا عن الاستراتيجية على المستوى المحلي فتعتبر الاستراتيجية النواة لفرض وجودنا الثقافي في المعترك الحياتي واثبات خصوصيتنا الثقافية والهوية الوطنية القومية داخل مجتمعاتنا ورفع هذه الهوية أمام الآخر وتكمن محاور ونقاط هذه الاستراتيجية في:
– محاولة المزاوجة بين المجتمع الحديث والحياة الشعبية التي خلفها الأجداد ويقصد هنا بالمزاوجة هو عدم الانفصام بين النواحي الحياتية والتجارب الموروثة التي لا بد أن تحضر وتحلل وتقدم في ثوب جديد مع الحفاظ على الإبداعية فلكل ثقافة محلية خصوصية، ولكن تجتمع كلها في صفات مشتركة تكون السمة الغالبة للهوية الثقافية.
– تحديث ثقافتنا وتطويرها من خلال تبيان وضعية المتحول من الثابت فيها وذلك بإثبات هويتنا في وجه تيارات العولمة الثقافية حتى نتمكن من المحافظة على قوميتنا العربية.
– إيجاد رؤية تصور العالم على أنه مجموعة واحدة نتبادل المنافع دون إسقاط الخصوصية التي تميز كل جماعة في موروثها الثقافي.
– رفض العزلة والهيمنة في الوقت نفسه ومحاولة وضع وجودنا الثقافي في المعترك الحياتي من خلال تطويع الثقافة الجديدة مع ثقافتنا حتى تصبح مزيجا من الأصالة والمعاصرة وهنا يمكن المحافظة على هويتنا ومواكبة الآخر.
هذا يدل على تأثير الأرض، وعلى أن طبيعة الإنسان التي طبعه الله عليها حب الوطن والديار، ولكنَّ لهذا الحب حدودًا يجب ألا يتجاوزها؛ لأن فوق هذا الحب حبًّا آخرَ أَولَى منه وأهم، وهو حب العقيدة والدين، فإذا ما تعارض حب الوطن مع الدين، وجَب حينئذ تقديم الأعلى وهو الدين، فبعقيدتنا وإسلامنا وتعاليمه، سوف يتحرر العقل والفكر من التخبط الناشئ عن خلو القلب من هذه العقيدة، وتكسب النفس الراحة، فلا خلْط ولا اضطراب في الفكر والسلوك، ولا تحوُّل نوعي في الفكر، ولا انحراف في السلوك الجماعي أو الفردي، ويمكن عندها بناء مجتمع قوي بعقيدته، ثم بمجموع أفراده؛ حيث عندها يدرك كل منهم ماذا تعني المواطنة، وماذا يعني الانتماء إلى وطنه؟
الوطن هو الأم؛ لأنه الحب والعطاء، وهو الأمن؛ لأن نسيمه عبير الحرية، وهو الأمان؛ لأنه يصون الكرامة ويحفظ الحقوق، ويحافظ عليها؛ فالوطن حقوق وواجبات، وفاء وتضحيات، عدل ومساواة. إذا كان حب الوطن عاطفة تَجيش في النفوس – شأنها في ذلك شأن سائر العواطف الأخرى – فإن الشرع الإسلامي جاء ضابطًا للعواطف؛ ليحدد مسارها، ويُحسِّن توجيهها؛ لتعمل في ميدانها السليم دون تقصير أو زيادة.
المحبة للأوطان والانتماء للأمة والبلدان، أمرٌ غريزي، وطبيعة طبع الله النفوس عليها، وحين يولد الإنسان في أرض، وينشأ فيها – فيشرب ماءها، ويتنفس هواءها، ويحيا بين أهلها – فإن فطرته تربطه بها، فيحبها ويواليها، ويكفي لجرْح مشاعر إنسان أن تشير بأنه لا وطنَ له، لقد فطر الله تعالى الناس على حب المال والأهل والولد، والأوطان وغيرها؛ حتى يَعمُروا الأرض التي جعلهم مستخلفين فيها، وبيَّن تعالى أن الغاية مِن خلْق الخلق هو عبادته وحده لا شريك له؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].
أما العلاقة بين الهوية والثقافة، فإنها تعني علاقة الذات بالإنتاج الثقافي، ولا شك أن أي إنتاج ثقافي لا يتم في غياب ذات مفكرة، دون الخوض في الجدال الذي يذهب إلى أسبقية الذات على موضوع الاتجاه العقلاني المثالي، أو الذي يجعل الموضوع أسبق من الذات، وإن كل ما في الذهن هو نتيجة ما تحمله الحواس وتخطه على تلك الصفحة (ذهن الإنسان) كما يذهب لوك، والاتجاه التجريبي بشكل عام.
فالتيار الذي يحدد الثقافة داخل إطار جامد ومبادئ مطلقة غير قابلة للتغيير سيكون منظوره لمحددات الهوية الثقافية وعناصرها ثابتاً جامداً جمود الثقافة التي يحملها ، تلك الهوية صالحة لكل زمان ومكان، هوية تتعالى على أحداث التاريخ وصيرورته أي لا تتحول ولا تتبدل ولا تتطور، بعيدة عن الواقع والصراع الدائر فيه لا تلامس مشاكل الواقع الذي تعيش فيه ولا تشارك في حلها مقطوعة الصلة به لأن حلولها جاهزة مستقاة من التراث الذي يقدسه، هوية مكتفية بذاتها ليست بحاجة إلى العلوم والانفتاح على الآخر، لأنها تملك كل شيء على الصعيد الديني والأخلاقي والفكري والسياسي والاجتماعي، والبعض منها مكتف حتى على الصعيد العلمي والتطبيقي، فتراثنا العربي يزخر بالإنجازات في جميع الميادين، وما علينا إلا إحياء عناصره من أجل بناء حضارة عربية بذات عربية أصيلة.
أما التيار المضاد للتيار السابق فإنه يقف على الطرف النقيض حيث يرفض الهوية الثقافية العربية المبنية على أسس ومبادئ التراث، وينظر إليها على أنها هوية جامدة متحجرة ولا أمل في بث الحياة فيها، وبالتالي يرفضها ويتبنى هوية ثقافية عصرية تستمد أسسها من الحضارة الغربية الحديثة والمعاصرة
ونجد تياراً ثالثاً في الساحة الثقافية العربية يتميز بالروح العقلانية النقدية والواقعية العلمية ويحاول أن ينتج ثقافة متعددة المناهج منفتحة على الثقافات الأخرى، ويستفيد من نتائج العلوم التجريبية والإنسانية، ويعدها روافد مهمة تتغذى منها الثقافة وتتعامل معها بشكل نقدي، وفي نفس الوقت لا تهمل التراث العربي فهي تخضعه لمحك النقد وتستفيد مما هو صالح للحياة والنمو والتطور ومن ثم تتجاوزه، وتصبح الأصالة في منظور هذا التيار ” هي تلك التي صنعها ويصنعها العرب كل يوم بل كل ساعة، فالأصل ليس كنزاً ولا ركازاً، ليست معطى خاصاً ولا قطعة في متحف، بل الأصالة سمة تطبع كل عمل فيه خصوصية وإبداع، والخصوصية والإبداع ليسا وقفاً على فترة معينة، ولا في التاريخ العربي ولا في تاريخ أي شعب من الشعوب”
وينظر هذا التيار العقلاني النقدي إلى الهوية في كونها هوية مرنة متجددة تتجدد عناصرها حسب التطور ومستجدات العصر، مع احتفاظها بخصوصيتها في كونها هوية عربية تستوعب ثقافة الآخر وتوظفها في بناء ثقافة منفتحة وتطرح الدين الإسلامي بصورة تتميز بالتسامح يقبل الآخر ويتعامل معه، الهوية الثقافية العربية عند التيارين الأولين تتميز بالتعصب لما هو تراثي إسلامي بالنسبة للتيار الأول، ولما هو غربي بالنسبة للتيار الثاني،
أما التيار الثالث فيتبنى هوية ثقافية تتميز بالمرونة والتشكل المتجدد المستمر، فهي نتاج ذوات وموضوعات وثقافات، فالهوية الثقافية هي الانعكاس لتكوين الأنا ” إن تشكل الأنا عبارة عن ولادة مستمرة … ” ، أي الولادة المستمرة للأنا أو الهوية الثقافية تعني الحياة والاستمرار والنمو والتطور، هوية متجددة تستفيد من معطيات العصر في ميادينه المختلفة واستثمارها لصالح الإنسان ومتطلباته المتعددة في مختلف مناحي الحياة. هوية ثقافية تعيش داخل التاريخ لا خارجه ولا متعالية عليه
. وإذا تساءل البعض: أين تبتدئ الهوية وأين تنتهي؟ نجد أن هذا السؤال لا نملك الإجابة عنه لأنه ليس هناك حدود معينة يمكن أن نقول فيها الهوية بشكل عام والهوية الثقافية بشكل خاص حسب التعريف الأخير. قد يعترض البعض على أن التفكير في مسألة الهوية الثقافية في الظروف العالمية الراهنة وما يسود من اختراق ثقافي للعالم العربي، يدعونا إلى التشدد في مسألة الهوية الثقافية العربية التي يحاول الغزو الثقافي الغربي ضربها في مكوناتها ومبادئها وأسسها خاصة إذا نظرنا إلى الثقافة في كونها ” ذلك المركب المتجانس من الذكريات والتصورات والقيم والرموز والتعبير والإبداعات التي في إطار ما تعرفه من تطورات بفعل ديناميكيتها الداخلية وقابليتها للتواصل والأخذ والعطاء ”
فإذا كانت الثقافة العربية تمثل من هذا المنظور الخصوصية التاريخية للأمة العربية في قيمها ومبادئها ونظرتها إلى الإنسان والكون والله، ونظرتها إلى الحياة والموت، بمعنى آخر الثقافة العربية تشكل البعد الإنساني للعرب فهي التي تجذر العرب في تراثهم وتاريخهم، وهي التي تفتح آفاق المستقبل أمامهم، كما أن ارتباط الهوية الثقافية
بالوطن أو الأمة يجعلها تتعرض اليوم للهجوم من قبل العولمة أحد أشكال الهيمنة وأحدثها التي تحاول القضاء على الدولة الوطنية والقومية من أجل تعميم قيمها ونموذجها الحضاري والثقافي، وهذا خلق نوعاً من التعارض الحاد بين الهوية الثقافية وأهداف العولمة ؟
الخلاصة أن الذات المفكرة تقوم بدور كبير في إنتاج الثقافة، وتحديد نوعها وأهدافها وهويتها في كل مجتمع إنساني وفي كل عصر من العصور. وبناء على ما سبق فإنه يصعب أن نجد تعريفاً جامعاً مانعاً لمفهوم الهوية الثقافية، فالهوية الثقافية تختلف من مجتمع إلى آخر ومن عصر إلى عصر، كما تختلف باختلاف التوجهات الفكرية والأيديولوجية لمنتجي الثقافة العربية.
دكتور القانون العام
محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان