شهدت وتشهد قضية السكان تذبذبًا ما بين اهتمام وتهميش، وربما يصل إلى حد التجميد، وإرادة سياسة مهتمة أو غير مهتمة أو غير ناجزه، وتصورات متناقضة بين من يرى الزيادة السكانية نعمة وقوة وغلبة، ومن يراها عبئًا وخطرًا يهدد الأخضر واليابس. وبين هذا التيار وذاك ضاعت القضية الأساسية وهي المتعلقة بالعلاقة بين نمو السكان ونمو الموارد، بين اعتبار العدد المطلق قوة وبين اعتبار القوة في تطور الإنتاج والتكنولوجيا المتقدمة والتعليم والخبرات الفنية الجيدة.
الاحتياج ملح إلى تنمية حقيقية توسع آفاق الاختيار أمام الناس، وإغناء الحياة البشرية بمحتوى جديد، تنمية تحقق التوظيف لكل الإمكانات الموجودة في المجتمع، وتمليك كل أفراد المجتمع عناصر القوة التي تمكنهم من التأثير في التنمية.
والعلاقة قوية بين التنمية الشاملة وبين الديمقراطية وحقوق الإنسان والسلام الاجتماعي. تشير التنمية الاجتماعية إلى التأثير على تطور الناس والمجتمعات بطريقة تحقق العدالة وتحسين الظروف المعيشية والصحة وتحقيق المشاركة. وتتجه التنمية البيئية إلى حماية الإنسان، والمحافظة على الموارد الطبيعية. أما التنمية الاقتصادية فتتمثل في تطوير البنية الاقتصادية فضلاً عن الإرادة الكفأة للموارد الطبيعية والاجتماعية.
وهكذا تسعى التنمية إلى تفعيل الإمكانات لدى جميع المواطنين لزيادة حجم القدرات لدى أي مجتمع، ومن ثم الدفع بمعدلات نموه إلى مستوى أعلى.
ويتوقف نجاح التنمية على النحو السابق على ضمان تحقيق التوازن بين نمو السكان ونمو الموارد حتى يمكن أن تتوجه لتحقيق هذه الأهداف. العبرة ليست في العدد وما إذا كان كبيرًا أو صغيرًا، العبرة هي في إمكانيات تحقيق هذا التوازن، ومن ثم تحقيق أهداف التنمية.
وقد كان صدور الاستراتيجية القومية للسكان 2015/2030 ملبيًا لأحد مطالب الدستور الذي يلزم الدولة ببرنامج سكاني يحقق التوازن بين الموارد والسكان. وتعد قضية العلاقة بين النمو السكاني ونمو الموارد وأهمية إحداث التوازن بينهما هدفًا رئيسًا ومحوريًا يؤدي تحقيقه إلى حدوث التنمية، ويؤدي اختلاله إلى إعاقتها وهدر منجزاتها.
بدأ التحذير من هذا الاختلال في العلاقة منذ ثلاثينيات القرن العشرين حتى وصل الأمر الآن إلى هذا المشهد المتأزم لواقع سكاني تتفاقم أبعاده يومًا بعد يوم، وواقع اقتصادي واجتماعي يعاني الكثير من جوانب الضعف والقصور، والإجهاض المستمر لجهود التنمية وعوائدها، ويكشف عن ضياع جهود تحقيق نمو اقتصادي ينعكس بشكل ما على تحسين الدخل أو مستوى المعيشة. وبدلاً من تحقيق معدل للاستثمار في الموارد الذى يحقق تراكم رأسمالي يخرج الفقراء من الفقر، اقتصرت الإمكانات على الاكتفاء بالحماية الاجتماعية دون فرص الاستثمار التي تخرجهم من الأحوال الصعبة. وبدلاً من تضاعف معدل النمو الاقتصادي عن معدل الزيادة السكانية حدث العكس حيث قلّ عدد السنوات اللازمة لتضاعف عدد السكان متخطيًا كل الافتراضات التي وضعتها الاستراتيجيات المتعاقبة للسكان، وازداد سكان مصر في السنوات العشر الأخيرة بمقدار 22 مليونًا، واحتلت مصر الترتيب الثالث عشر بين دول العالم في تعداد السكان.
أن الدولة والمجتمع يجب أن يوجها اهتمامهما أيضا إلى مشكلتين أخريين بجانب الخصائص السكانية للوصول إلى تحقيق الهدف الأسمى (التنمية) ألا وهما:ــ
• التوزيع السكاني: الوصول إلى المستويات المتعارف عليها عالميا للكثافة السكانية مما يساهم بطريقة غير مباشرة في الارتفاع بالخصائص السكانية بجانب زيادة فرص التنمية. وهنا لا يفوتني أن أسجل أن الدولة بدأت في التحرك الفعلي في الخروج من الوادي الضيق ومواجهة مشكلة تكدس السكان في 5% من مساحة مصر والانتشار على مدى المليون كيلومتر مربع هي مساحة مصر كلها على طول 2000 كيلومتر من شواطئ مصر.
• الزيادة السكانية: الصحة الإنجابية، معدلات المواليد والوفيات، الممارسات الصحية المناسبة في الأسرة المصرية (العمل على سرعة خفض معدل النمو الكبير 2.6).
ثلاثة محاور ــ الخصائص السكانية (الأهم من وجهة نظري) ثم التوزيع السكاني يتلوها الزيادة السكانية ــ للتحرك على الطريق لتحقيق التنمية، كل منها يحتاج لحديث يطول وكل منها يلزم تضافر «الفكر والعقول»، والتعاون الوثيق بين «الدولة والمجتمع» (المواطن، المنظمات الأهلية والقطاع الخاص).
تعد قضية السكان قضية أمن قومي تستوي في خطورتها مع الإرهاب. فالإرهاب يسعى إلى هدم الدولة، والانفلات السكاني يضعف قدرات الدولة على مواجهة احتياجات المواطنين تعد قضية السكان قضية أمن قومي تستوي في خطورتها مع الإرهاب.
فالإرهاب يسعى إلى هدم الدولة، والانفلات السكاني يضعف قدرات الدولة على مواجهة احتياجات المواطنين الأساسية ومن ثم تهديد كيانها وعلاقتها بالمواطنين. وهى قضية محورية في ضمان التمتع بحقوق الإنسان وما يسفر عن عدم التمتع بهذه الحقوق من مشكلات تهدد الأمن والسلام الاجتماعي.
العلاقة بين السكان والتنمية علاقة تفاعلية، فالسكان محورًا رئيسًا في النمو الاقتصادي حيث أنهم الموارد البشرية المنتجة. إلا أن للزيادة السكانية غير المخططة آثارها السلبية. فكلما ارتفع معدل نمو السكان انخفض معدل النمو الاقتصادي وتقوضت جهود الدولة في التنمية، نظرًا لامتصاص كل العوائد، وبالتالي انخفاض الدخل القومي، ومستوى المعيشة.
وتعد رؤية مصر في استراتيجية التنمية المستدامة 2030 هي الرؤية الرسمية للتنمية المعتمدة من الدولة ومن المجتمع الدولي. وتهدف الحكومة من خلال استراتيجية التنمية المستدامة إلى أن تكون مصر ضمن ثلاثين دولة من حيث مؤشرات التنمية الاقتصادية، والبشرية، وجودة الحياة. ومن الأهداف الإنمائية: تخفيض نسبة الفقر، وتخفيض نسبة السكان الذين يعانون من الجوع، والقضاء على الأمية، وتخفيض معدل وفيات الأطفال، وزيادة معدل انتشار وسائل منع الحمل، وضمان الاستدامة البيئية. يؤدي النمو السكاني السريع إلى إلقاء أعباء كبيرة على الموارد الطبيعية. ويعد نهر النيل المصدر الرئيسي لحوالي 97٪ من الموارد المائية. ومع الزيادة السكانية يتناقص باستمرار نصيب الفرد من المياه في ضوء حصة ثابتة تبلغ 55.5 مليار متر مكعب. وسيتناقص متوسط الحصة السنوية لكل فرد من 1000 متر مكعب في أوائل التسعينيات إلى 459 متر مكعب بحلول عام 2030، أي حد الندرة المائية، إذا ما استمر معدل الإنجاب الحالي. وسيؤدي الافتقار إلى مياه الشرب النظيفة والصرف الصحي إلى الأمراض لا سيما ماله علاقة بالتلوث والإصابة بالأمراض.
برغم زيادة مساحة مصر الكلية على مليون كم2، إلا أن السكان وعددهم 98 مليونًا يعيشون في مساحة لا تتجاوز 6.8٪ من إجمالي مساحة مصر، وبكثافة صافية مقدارها 1394 نسمة في الكم2. ورغم إنشاء 31 مدينة جديدة موزعة بين الدلتا ووادي النيل والساحل الشمالي الغربي، وإضافة 3.1 مليون فدان عام 2000، إلا أن هذه الإضافات لم يكن لها دور حاسم في استيعاب أعداد كبيرة من السكان، وظلت الكثافة مرتفعة.
وتحتاج المدن الجديدة لكي تستوعب ما هو مستهدف لها استيعابه من السكان إلى:
وجود قاعدة اقتصادية لاستيعاب القوة العاملة.
توفير الخدمات والبنية الأساسية.
مراعاة احتياجات الأسر المستجدة في المساكن الجديدة.
يذكر هنا أن هذه المدن حققت أهدافًا اقتصادية، إلا أنها لم تحقق سوى نسبة متواضعة من أهدافها السكانية. ونظرًا لتزايد الكثافة السكانية في الكم2 في تراكم رأسي، فإنها ستتصاعد باستمرار إذا ظلت مساحة المعمور على حالها. وتعد مصر بممعورها الحالي من أكثف بلاد العالم سكانًا إن لم تكن أكثفها على الإطلاق.
مع زيادة السكان المرتفعة ستتأثر مشروعات استصلاح الأراضي الصحراوية، وتتناقص مساحة الأرض الزراعية، مما يُسهم في عدم توفير الاحتياجات الغذائية. ولم تزد الأرض المزروعة إلا بنسبة 14٪ فقط منذ أواخر القرن الماضي، بينما زاد عدد السكان خلال الفترة نفسها بنسبة 168٪، وبسبب التمدد العمراني فقد تناقصت مساحة الأرض الزراعية القديمة بما يعادل 4٪ من المساحة الأصلية. ومع إضافة مساحات أخرى من الأراضي الزراعية أصبحت جملة الأراضي الزراعية في مصر 9.1 مليون فدان.
دكتور القانون العام
محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان