يتعيّن على النظم التعليمية العربية أن تلبّي احتياجات مجتمعات متعدّدة الأطياف، وترقية مواطنين مسؤولين قادرين على التعامل مع التعقيدات وتعزيز تغيير البناء. فالنظم الحالية تركّز على المؤشرات الكمية أكثر من النوعية، وتفشل بالتالي في تحقيق هذا الهدف.
ويؤدي ذلك إلى انتقادات حادّة. وقد أوضح تقرير التنمية الإنسانية العربية 2016، بمنتهى البساطة والصراحة: “عموماً، نوعية التعليم رديئة”.
تشير عشرات من التقارير الدولية إلى الرابط بين القصور في نظم التدريس من جهة، والبطالة ونقص الاستعداد لمواجهة التحديات الاقتصادية الوشيكة من جهة أخرى. بيد أن هذا الفهم للمشكلة، الذي يتركّز على الكيفية التي يتعيّن فيها على المدارس أن تهيئ الطلاب لمواجهة الوضع الاقتصادي يتسم، على الرغم من دقّته، بضيق الأفق. فالإصلاح لا ينبغي أن يركّز على المدارس
وحسب، بل على الطريقة التي يتعامل بها المجتمع مع التعليم. فالأمر لا يتعلق فقط بالتقدّم الاقتصادي وموقع العمل، مع أنهما مهمّان، بل كذلك بالاستقرار السياسي والسلام الاجتماعي.
غير أن الفهم الأوسع لأبعاد المشكلة لا يثير اليأس. إذ من شأن مقاربة كليّة شاملة للإصلاح أن تشير إلى مقترحات مبتكرة وبنّاءة وحافلة بالأمل. فلا ينبغي أن يقتصر الإصلاح على طرح سلسلة من التغيرات المحددة في المناهج الدراسية القائمة لتلبية احتياجات سوق العمل اليوم.
بل لابد من أن يكون التركيز، بدلاً من ذلك، على بذل الجهد لدفع المجتمع، على جميع الأصعدة (من القيادة السياسية، والموظفين العموميين، والمدرّسين، والطلاب، والأهل، والمجتمع المحلي) إلى بلورة الرؤى حول التعليم في مجتمعاتهم. ويجب أن تقوم هذه الرؤى بدرجة أقل على المواد التي يجب تعليمها في المدارس، وبصورة أكبر على كيفية تطوير عملية تعليمية تدمج ما يجري في الصف وخارجه، وفي موقع العمل، وفي وقت الفراغ، ولفترة طويلة بعد التخرج.
سيؤدي الإخفاق في التحرّك من التركيز الضيق على التعليم إلى عملية تعليمية أوسع نطاقا تغطي جوانب المجتمع كافة، إلى ظهور أجيال من المواطنين غير المنتجين. والتركيز على القسم الأول من هذه العبارة (أي التأكيد على مساهمة الاقتصاد في التعليم) مع إهمال القسم الثاني (أي التشديد على المواطنة أو مساهمات التعليم المجتمعية العريضة) إنما يدعو في آن إلى القلق، أخلاقياً، ولو إلى الإحباط الذاتي في نهاية المطاف.
وحتى عندما يؤخذ في الاعتبار الهدف بالغ الضيق المتمثّل في تلقين المعرفة المتعلقة بالمواد الضرورية للمشاركة في القوى العاملة اليوم، من الواضح أن أداء تلك النظم، في أغلبها، غير ملائم. فالمشاكل الكبرى في جميع أرجاء المنطقة لازالت تتمثّل في البطالة في أوساط الشباب، وما يتمخض عن ذلك من إحساس بالاغتراب. صحيح أن ثمة جوانب مشرقة في هذه الصورة،
غير أن نوعية التعليم تتفاوت بصورة كبيرة إلى حد يزيد من عمق اللامساواة بدلاً من تذليلها. كما أن المدرّسين لا يتلقون إلا القليل مما يحتاجون إليه من دعم وتدريب مستمرّين. والضغوط المفروضة علي القوى العاملة والعوامل الاقتصادية -وهي يمكن تفهمها – لا يمكن أن تخفي أن تلك النظم التعليمية تهمل إهمالاً تامّاً جوانب النمو الأخرى المرتبطة بالتعلّم التشاركي، والتمكين الفردي، وبصفة خاصة المشاركة الاجتماعية والمواطنة النشطة (بما في ذلك المنظومة القيمية المرتبطة بالديمقراطية وحقوق الإنسان). ستقصّر الحلول التكنوقراطية كل التقصير عن مواجهة هذه التحديات عميقة الغور. وفس وسع خبراء التربية والتعليم أن يحدّدوا المشاكل الواضحة بالاستعانة بالخبرات الإقليمية والدولية. ويساعد ذلك في التشخيص، غير أنه لايشير إلى حلول سهلة.
فكثيراً ماتبرز الحاجة إلى استقصاء مجالات تربوية في نواح لاينفع فيها النسخ الميكانيكي للمناهج والمواد الدراسية من مناطق أخرى.
قد لاتكون هناك فيزياء أو كيمياء عراقية (وحتى في موضوعات من هذا النوع، فإن الاستنساخ البسيط للمادة التي أُنتجت في مجتمعات أخرى لايكون عظيم الفائدة في مجال التعليم)، ولكن ثمة تواريخ، ومجتمعات، وثقافات عراقية. ولابد للتوصيات الإصلاحية أن تجمع بين الخطوط الإرشادية والطروح والمقترحات الخاصة بمبادرات محددة قد تتنوّع تفاصيلها حتى في المنطقة الواحدة.
ويقتضي الإنصاف التنويه بأن البلدان العربية حقّقت نجاحات حقيقية في بلورة نظم تعليمية شملت أغلب الجوانب في تلك المجتمعات. لكنها فعلت ذلك وفقاً لتعاقد ضمني تقدّم بموجبه الدولة خدمات معيّنة مقابل الطاعة والاستكانة. ويمكن أن يكون ذلك مبرّراً للدفاع عن المدارس القائمة لأكثر من سبب، لكن فقط عبر الاستشهاد بالجانب الكمّي لا النوعي في سيرورة التعلُّم.
في أكثر البلدان، اتّسع نطاق التربية والتعليم إلى خارج المدن ليشمل القرى، والمناطق الريفية، ومخيمات اللاجئين؛ كما انتشرت مهارات القراءة والكتابة الأساسية لدى أغلبية السكان (ما رفع معدلاتها في أوساط الشباب إلى ما يزيد على 90 في المئة في أغلب البلدان العربية، كما ردمت إلى حد بعيد الفجوة الجنوسية في هذه الناحية).
والآن، يتخرّج ملايين الطلاب الجامعيين سنوياً بمهارات متنوعة أهّلتهم لشغل مناصب في مختلف الأجهزة الإدارية البيروقراطية، والمهنية، والأنشطة الأخرى. كما أن الفجوة بين الجنسين آخذة بالتناقص في المراحل التي تتجاوز القضاء على الأمية الأساسية. وفي أكثر هذه البلدان، تتجاوز أعداد الطالبات أعداد الطلّاب في متابعة التحصيل الجامعي.3
ولايزال كثير من النظم المدرسية بواصل إنتاج أعداد ضخمة من الخريجين، حتى عندما تعمل في بيئات مالية وسياسية بالغة الصعوبة. ولا تعود هذه الصعوبة في بعض الدول إلى محدودية الموارد وحسب، بل كذلك لأن أنظمة الحكم القائمة أخفقت في إعطاء الأولوية للتعليم، أو أنها تعاني مشاكل كبيرة في مجال الحوكمة تلحق الضرر بقطاعات أخرى، منها التعليم. بيد أن المشكلة ليست مالية أو سياسية فقط. فالمسؤولون في حكومات الدول الأكثر عراقة وثراء ممن استثمروا الكثير في ميدان التربية والتعليم (وخصّص بعضهم خمس الميزانية العامة لهذا الغرض) يشعرون بالإحباط إزاء النتائج غير المواتية. بالطبع، تُبذَل جهود الآن لإصلاح التعليم في أرجاء المنطقة، وثمة تجارب إيجابية وخبرات مبتكرة ينبغي أن تحظى بالاهتمام اللازم.
غير أن أغلب المصلحين يشكون من أن الترتيبات البيروقراطية المتزمتة، والمقاربات التنظيمية التسلطية واسعة النطاق الصادرة في أغلب الأحيان من القمة إلى القاعدة إنما تفضي بهم إلى طريق مسدود. وفي أغلب الأحيان، فشلت جهود الماضي، بما تنطوي عليه من النوايا الحسنة، في متابعة مراحل التنفيذ المعقدة: فقد أهملت هموم أصحاب المصالح المعنيين وأصواتهم وأولوياتهم؛ ولم تكن لديها الرؤية الاستراتيجية؛ وانقطعت صلتها مع أي إطار واضح المعالم لأساليب التعليم السليمة. يضاف إلى ذلك أن كثيراً من هذه المبادرات قد بدأتها وساندتها الوكالات الدولية والدول المانحة، وساد الاعتقاد بأن ما يسيّرها ويوجهها هو الأجندات الاقتصادية والاجتماعية وليس الرؤى المحلية.
على الرغم من هذه الضغوط، ثمة أطراف أحدثت تغيرات إيجابية داخل النظم القائمة ومنها: المربّون الذين يولون اهتماماً عميقاً بأعمالهم، والمسؤولون الذين يتوصلون إلى حلول مبتكرة، والطلاب من ذوي الخيال والطموح. ويمكن أن ييسّر ذلك مهمة تحديد التجارب التي تبشّر بالخير واقتراح السبل والوسائل الكفيلة بتفعيلها في أرجاء المنطقة وفي النظم التعليمية على حد سواء.
تمثّل المدارس المحور الرئيس الذي تدور حوله النقاشات الخاصة بمنظومة القيم، والدين، والهوية، والنوع الاجتماعي، والعِرْق، لذا عاملتها الدول بوصفها مجالات ينبغي أن تمارس سلطاتها عليها. وهي تفعل ذلك من خلال المراقبة المشدّدة لمضمون المناهج.
ويفضي ذلك إلى نوعين من المخاطر: الأول هو أن نظم المدارس ستكون مركزية إلى حد كبير، وبالتالي معزولة عن أصحاب المصالح الأساسيين وآليات المساءلة والمحاسبة أمام المجتمع. أما الثاني فهو أن التعليم سيقوم على أساس فهم مخطئ للكيفية التي يتعلّم بها التلاميذ.