نعم تغيرت المفاهيم، هاجرت المعايير الأخلاقية مكانها، سكنت دارًا غير دارها، تنصلت منا أغلب ثوابت تربيتنا الصالحة التي تلقيناها، تركتنا ورحلت إلى أرض بعيدة، سكنتها واستوطنت في ربوعها، تغيبت وتغيبت، ثم طالت غيبتها، آثرت البقاء بعيدًا عن أرض يتغذى أهلها على صراع مستمر بلا جدوى ودون فائدة، وحين هممنا بسؤالها عن موعد عودتها إلينا، سبقتنا بقولها بأن الفضيلة لم يعد لها ها هنا مكانًا، فهى تتعرض لهجوم ممنهج يعجل بانصهارها، ثم التلاشي شيئًا فشيئًا حتى تذوب في بوتقة التقليد الأعمى.
كنا في الماضي نتسابق، ندور في مضمار الحكمة، نتسارع نحو الفضائل، نستثمر فيها ونهتف باسمها، نحقق فيها أنفسنا، ننتظر بكل شغف نتيجة اتباعنا لأصولها، نترقب مؤشرًا يتقدم ليبرهن على مدى تقدمنا، يتسلل بداخلنا شعور بالفخار ونحن نحتسب كل سلوك قويم اتبعناه، التزامنا بخلق رفيع يرفعنا ويعزز مكانتنا، إن علاقاتنا الإنسانية في الماضي لم تكن تشبه من قريب أو بعيد ما هى عليه الآن، بعد أن خضعت لمعايير أخرى، وقليل منا من استطاع أن يحافظ على هويته الأخلاقية.
الصور المرتبكة صارت تتكاثر، تتخبط، تتصارع، تملأ مجتمعنا إحساسًا زائدًا بالغربة، والموضوعات التافهة راحت تتصدر المشهد بكل قوة، إنها تتوعد من يتنكر لها ويأبى المرور بدوامتها المظلمة، تهدده بأن تحيل أيامه لعذابات لا حصر ولا نهاية لها، ومع ذلك فنحن ما زلنا نجاهد، نرفض الانسياق خلف ريح عاتية تهدد كياننا، تبعثر هويتنا، تسعى للحد من إنسانيتنا التي طالما زينتنا ورفعت من قدرنا.
كلما زادت قتامة الصورة، كلما اتضحت ملامح وأبعاد المؤامرة الكبرى، فشعورك بالاغتراب وسط مجتمعك يؤرقك ويزيد إحساسك بالوحدة، يدفع بك رغمًا عنك في طريق العزلة شبه التامة، كأنك تحتمي بظلها؛ هربًا من فتنة تفرض وجودها عليك، تختبيء خوفًا من دفعها بك نحو طريق ينتهي بانزلاقك لتهوي بعدها في ظلمات مصائد الفتن.
لعلنا جميعًا نلاحظ هذا المنهاج، هذا السلوك الذي تفشى في مجتمعنا، بل وربما في عالمنا بأكمله، بعد أن قام بتحويل الإنسان النقي إلى دمية، لألعوبة يلهو بها، يعيد تدويرها فيحولها لأضحوكة يطرح آلامها ويتداولها، حتى أنه أمسى يبحث عن توثيق للحظة ألم يمر بها غيره، بدلًا من أن يقف بجوار الحق، ينصفه وينصره.
ما أسوأ هذا الطريق الطويل المغطى بالأشواك، وما أسوأ العزلة التي فرضها علينا، فالعلاقات الإنسانية لم تزل لها من الأهمية ما يجعلنا نتمسك كبشر بها، ندعم وجودها ونحافظ على بقائها بيننا.