فى كتابها الرائع ” الغيب فى القرآن ” توجه العالمة الجليلة الدكتورة زينب عبدالعزيز أنظارنا إلى أهمية طرح قضية ” الغيب ” من جديد على العقل البشرى عموما، والعقل المسلم خصوصا، فى هذا الزمن المادى الذى كثر فيه الإلحاد، واهتز فيه الإيمان بالغيب اهتزازا عظيما لدى كثير من الناس، وكادت مداركهم تتوقف عند عالم الشهادة والتجربة.
والدكتورة زينب عبدالعزيز أستاذ الحضارة والأدب الفرنسى ومقارنة الأديان هى أول امرأة تترجم معانى القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية، وأنفقت عشرات السنين من عمرها المديد فى الذود بشجاعة وإخلاص ووعى عن حياض عقيدتنا السمحة فى مواجهة ملوك ورؤساء ومستشرقين متربصين بديننا، وفى وجه كل من يحاول النيل من هويتنا وحضارتنا وقيمنا، ثم هى إلى جانب ذلك فنانة تشكيلية مبدعة أدهشت بريشتها ولوحاتها عشاق هذا الفن فى أكثر من 52 معرضا محليا وعالميا، منذ عام 1955 إلى 2021.
فى هذا الكتاب تذكرنا الدكتورة زينب بأن الإيمان فى حقيقته إيمان بالغيب، إيمان بالله والملائكة والجن والوحى والقيامة واليوم الآخر والحساب والجنة والنار، وكل ما أراد الله سبحانه أن يجعله مخبوءا عنا من عوالم لانراها ولا نلمسها، فالروح غيب، والكتاب المحفوظ غيب، والبعث غيب، والإسراء والمعراج غيب، وما تحمل الأنثى وما تضع غيب، ومواقيت تصريف الرياح والمطرغيب.
وقد أثبت العلم الحديث أن كل شيء فى الدنيا عبارة عن ” ذبذبات “، لكن عيوننا لايمكن أن تلتقط كل هذا الكم الموجود منها، فنحن لانرى الأشعة فوق البنفسجية رغم أنها موجودة بالفعل، ولا نرى الأشعة تحت الحمراء، وهى موجودة ونستخدمها لنتجول بين محطات التليفزيون، كما أن آذاننا لاتسمع الأصوات تحت حيز الصوت الآدمى، بينما تسمع الكلاب ـ مثلا ـ درجات من الصوت أعلى منا، أى أن هناك كائنات أخرى فى الكون لانراها ولا نسمعها ولا نشعر بوجودها رغم أنها موجودة فعلا، وذلك الكون المخبوء يطلق عليه إجمالا “العالم الآخر”، وتعيش فيه مليارات الكائنات والمخلوقات.
وكلمة ” الغيب” وردت فى القرآن الكريم ثمان وأربعون مرة بنفس الصيغة، ومرة واحدة منسوبة إلى الله تعالى بصيغة “غيبه”، وأربع مرات بصيغة الجمع “الغيوب”، وكل هذه التصريفات المختلفة مقصود بها ذلك العالم المخفى عنا، وعلينا الإيمان بوجوده الفعلى إيمانا صادقا، فالإيمان بالغيب هو أولى درجات الإيمان وفق ماورد فى صدر سورة البقرة : ” ألم . ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين . الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون . والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون”.
وينفى القرآن الكريم العلم بالغيب عن البشر والجن، فالله وحده من يعلم غيب السماوات والأرض، وكل مجال فى السماوات له غيبه، والله تعالى عنده مفاتح الغيب لايعلمها إلا هو، لكنه يوحى ببعض الغيب إلى بعض الرسل، وهناك غيوب متعددة، والله سبحانه هو “علام الغيوب”، وهذا التعدد فى مجال الغيب المطلق يشمل أسرار ونيات ونجوى البشر، وتشير عبارة “عالم الغيب” إلى كل ماغاب عن العيون، سواء أكان محصلا فى القلوب أو غير محصل، وكل مكان أو زمان لاندرى مافيه فهو “غيب”.
ومن أمتع فصول الكتاب ذلك الحوار الافتراضى المتصور بين جنينين توأمين فى بطن أمهما، وهو حوار يشبه حوارات من يؤمنون بالغيب ومن ينكرونه، ويدورعلى النحو التالى:
ـ … وأنت هل تؤمن بالحياة بعد الولادة ؟
= بالطبع، الحياة بعد الولادة موجودة فعلا، نحن هنا فى العالم المحدود الضيق لننمو ونزداد قوة، ونستعد لما ينتظرنا بعد الميلاد وما سنقوم به من مهام ونتعلمه من دروس وتجارب.
ـ هذا هراء لامعنى له، لايوجد أى شيء بعد الولادة، كيف يمكن أن تكون هناك حياة خارج البطن؟ خارج دنيانا المحدودة هذه التى نعيش فيها ونعرف كل أبعادها؟
= يقولون هناك كثير من النور، وكثير من السعادة والانفعالات المفرحة، وآلاف الأشياء التى علينا أن نمارسها ونعيش تجاربها، سنأكل بفمنا، وسنتفنن فى العديد من أنواع الطعام والحلوى.
ـ هذا كلام لامعنى له، لدينا حبلنا السري الذى يغذينا، الطعام لايتم أبدا عن طريق الفم، ولم يحدث أن عاد أحد إلى بطن أمه من الذين ذهبوا إلى تلك الحياة الأخرى بعد الوضع، كل هذه القصص والروايات محض سذاجة، الحياة تنتهى ببساطة بعد عملية الوضع، علينا أن نتقبلها بهذا الشكل الذى نحن عليه لا أكثر.
= أنا لاأعرف ماستكون عليه الحياة بعد الوضع، ولا يمكننى أن أثبت لك أى شيء، لكننى أتصور أننا فى تلك الحياة القادمة سنرى أمنا، وأنها ستعتنى ينا وسننعم بحبها و…..
ـ أمنا ؟! أتعنى أنك تؤمن بما يسمونه الأم، أين هى إذن؟
=هى فى كل مكان حولنا، ونحن جزء منها ونعيش بفضلها ورعايتها، وبدونها لما كنا هنا فى هذا المكان.
ـ هذا عبث، أنا لم أر أما فى حياتى، ومن المؤكد أنه لاوجود لها.
= لا أتفق معك، لأنه أحيانا عندما يكون كل شيء شديد الهدوء من حولنا يمكننا الاستماع إلى غنائها، ونشعر أحيانا أنها تربت برفق وتتحسس عالمنا بحنين، ولا تضحك منى فأحيانا يهيأ لى أننى أسمع أنينها، فأشعر وكأن حياتنا الحقيقية ستبدأ بعد الوضع.
وعلى مدى ثلاثة فصول تتوسع الدكتورة زينب عبد العزيز فى عرض مايتعلق بالغيب من خلال رؤى جديدة تتناول الوحى والبعث والخلق، والحياة والموت والرجوع إلى الله، والجن والشيطان، والروح والنفس والقلب والعقل، والسماوات والنفخ فى السور ويوم الحشر ويوم الحساب والجنة والنار، وسدرة المنتهى.
إنه كتاب فريد، يحمل لقارئه متعة العقل وراحة الروح، نفعنا الله به وبعلم صاحبته .