فى مايو الماضى صدر للدكتور محمد عبد الخالق عبد المولى كتاب مهم بعنوان ” جهود المؤرخين المسيحيين في مصر الإسلامية .. من القرن الأول إلى السابع الهجري ” عن الهيئة العامة للكتاب، وهو فى الأصل رسالة حصل بها المؤلف على درجة الماجستير من كلية دار العلوم جامعة القاهرة عام 2007 .
يقع الكتاب فى 340 صفحة، ويمثل أهمية بالغة لفهم طبيعة الحياة فى مصر بين المسلمين والمسيحيين منذ دخول الإسلام إلى مصر، ويلقي الضوء بأسلوب علمي على إسهامات المؤرخين المسيحيين فى تسجيل تاريخ مصر الإسلامية، وهي إسهامات لم تظفر بما تستحقه من اهتمام الباحثين حتى الآن .
وكنت قد قرأت للمرة الأولى عن جهود هؤلاء المؤرخين المسيحيين فى كتاب ” الفتح العربى لمصر ” للمؤرخ الإنجليزى الكبير ألفريد بتلر، الذى اعتمد فيه على ما كتبه هؤلاء المؤرخون عن فتح مصر، وما تركوه من وثائق ومصنفات فى الأديرة والكنائس بمصر وأثيوبيا، وقد عثر على بعضها فى متاحف أوروبية .
وجاء كتاب الدكتور محمد عبدالخالق ليقدم دراسة علمية رائدة للمدرسة التاريخية المسيحية فى مصر، وينفض الغبار عن أعلامها، ويظهر منجزاتها بكل موضوعية وأمانة، دون إجحاف أو مبالغة، وليضيف الكثير من المعلومات عن المؤرخين المسيحيين فى القرون الهجرية السبعة الأولى، ويتناول مصنفاتهم بالمناقشة والتحليل، ابتداء من يوحنا النقيوسي الذي عاصر الفتح الإسلامي لمصر وسجل أحداثه بصفته شاهد عيان، ومرورا بكتابات سعيد بن بطريق وساويرس بن المقفع وابن مماتي وأبي المكارم بن جرجس وابن الراهب، وانتهاء بتاريخ المكين جرجس بن العميد، المتوفى في أواخر القرن السابع الهجري ” الثالث عشر الميلادي”.
وفي ثنايا هذا التناول يوازن المؤلف بين مناهج هؤلاء المؤرخين، ويدرس مواردهم، ويلقي الضوء على أهمية كل مصنف من مصنفاتهم في خدمة الباحثين في تاريخ مصر، ويناقش من خلال تلك المصنفات علاقة الكنيسة بالدولة، ويبرز أهمية ما اشتمل عليه بعضها من وثائق ذات قيمة بالغة بالنسبة لمؤرخي تلك الفترة .
ويركز المؤلف في الأساس على معالجة حركة التاريخ والمؤرخين المسيحيين في مصر الإسلامية، ويقوم بحصر أبرز هؤلاء المؤرخين، ويقدم لهم ترجمة مفصلة من خلال ما أتيح له من مادة، بحيث نخرج بمعرفة تكاد تحيط بشخصية المؤرخ إحاطة كاملة، ثم ينتقل إلى التعريف بآثاره العلمية التي تركها، خاصة الآثار التاريخية، التي تعبرعن خلاصة فكره وثقافته وقدراته العقلية، فنقف على الملامح العامة لمنهجه التاريخي، وأهم سماته الشخصية والثقافية، ويقوم أيضا بدراسة المؤلفات التاريخية لكل مؤرخ دراسة تحليلية مفصلة، ويخرج منها بتصور واضح عن فكر هذا المؤرخ وثقافته، وموارده ومنهجه في العرض التاريخي، واختبار مدى صحة بعض ما ورد في مؤلفاته من الوجهة التاريخية، وذلك بموازنة روايته التاريخية بما ورد في المصادر الإسلامية والمصادر المسيحية الأخرى .
وعلاوة على ذلك فإن للكتاب أهمية كبرى بوصفه مصدراً من مصادر التاريخ الإسلامي، خاصة أن في هذه المصادر المسيحية روايات تاريخية كثيرة لم يرد ذكرها في المصادر الإسلامية .
وقد لاحظ المؤلف عند استعراض المؤرخين المسيحيين أنهم يكثرون فيما بين القرن الثالث ونهاية الرابع الهجري، ثم يقلون بشكل واضح في القرن الخامس، حتى إذا جاء القرن السادس لم نكد نعثر على مؤرخ واحد، ثم يعود الأمر إلى الاعتدال، ويظهر بعض المؤرخين المسيحيين في القرن السابع، فكأن القرن الرابع الهجري والقرن السابع الهجري هما الفترتان الذهبيتان في الكثرة والإنتاج، كما لاحظ أن هؤلاء المؤرخين المسيحيين لم يعتمدوا في كتاباتهم على مصادر مسيحية فقط، خاصة عند التأريخ للإسلام، بل اعتمدوا أيضا على مصادر المدارس التاريخية الإسلامية .
وعلى الرغم من أن عنوان الكتاب يحمل صيغة “جهود المؤرخين المسيحيين ” فإن المؤلف اضطرِ إلى أن يدخل ضمن هؤلاء المؤرخين المسيحيين أحد المؤرخين المسلمين، وهو ” ابن مماتي” الذي كان مسيحياً ثم أسلم هو ووالده ومعظم أفراد أسرته، وذلك لأن ابن مماتي كان من أسرة مسيحية عريقة، تقلد معظم أفرادها وظائف مهمة في دواوين الدولة الإسلامية، وظلوا على ديانتهم حتى أسلم والد ابن مماتي هو وأولاده على يد صلاح الدين الأيوبي، لكن إسلامهم لم يكن رغبة في الإسلام، وإنما للمحافظة على وظائفهم ومكانتهم الاجتماعية، ولهذا فإن معظم المصادر والمراجع التي ترجمت لابن مماتي أو تحدثت عن مؤلفاته أدرجته ضمن المؤرخين المسيحيين .
ويشير الدكتور محمد عبد الخالق إلى أن المجتمع القبطي كان له دور مهم في تاريخ مصر الإسلامية، وكان للكنيسة القبطية دائماً علاقات رسمية مع الحكومات الإسلامية، ومع ذلك فإن الرواية الإسلامية لم تفسح مجالاً كبيراً لبحث هذه العلاقات وتمحيصها، ولم تعن بالأخص بأن تشرح لنا وجهة النظر الكنسية في مختلف العصور شرحاً وافياً، ولم تفطن إلى الاستفادة من المصادر المسيحية في تفهم أحوال المجتمع المسيحى وزعامته الروحية، ومن ثم كانت هناك أهمية لدراسة المصادر المسيحية التي تختص بتاريخ مصر الإسلامية، فمن خلال هذه المصادر نستطيع أن نفهم بوضوح موقف الكنيسة وموقف أتباعها، حسبما يصوره لنا كتابها ودعاتها، ونستطيع بمراجعة أقوالهم وتعليقاتهم أن نقف على كثير من الحقائق التي لم تهتم الرواية الإسلامية بشرحها واستيعابها، خاصة في العصور التي تتجه فيها السياسة إلى الضغط على الكنيسة والمجتمع المسيحى لظروف خاصة، كما حدث فى مصر خلال عصر المأمون وعصر الحاكم بأمر الله وأيام الحروب الصليبية، فهنا تبدو الرواية الكنسية متنفساً حقيقياً للتعبيرعما يخالج الكنيسة ورعاياها من العواطف والآراء نحو المجتمع الإسلامي .
وأكمل الأسبوع القادم إن شاء الله .