ويتجدد اللقاء كل عام ، وتتجدد الأفراح بسيد الخلق وحبيب الحق حبيبنا وشفيعنا وقرّة أعيننا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ونحن نعيش ذكرى هجرته العطرة.
إن الهجرة النبوية الشريفة فتحت للدنيا عصراً مجيداً تزهو به، وتاريخاً حافلاً بالبطولات الرائعة والمُثُل العليا، ولذلك يحتفل المسلمون في شتى بقاع الأرض بهذه الذكرى العطرة لما تحمله الهجرة من معانٍ سامية ، وما تحدِّده من معالم واضحة .
ولم تكن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم في سبيل الله بِدْعَاً، بل هي سنة قديمة في حياة الرسل عليهم السلام لإيجاد مجتمع مؤهل لنشر التوحيد ، وتقبله والاستجابة له، والذود عنه، أما عن إرهاصاتها فقد بدأت مع بداية الرسالة المحمدية ، وذلك بقول ورقة بن نوفل الأسدي للنبي صلي الله عليه وسلم : يا ليتني فيها جذع ، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك .
فقال النبي صلي الله عليه وسلم : أو مخرجيّ هم ؟
قال : نعم . لم يأتِ رجل بمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً .
إن فلسفة الهجرة النبوية تكمن في أنها ليست مجرد سفر لبضع مئات من الأميال، وليست مجرد تحول من وطن إلى وطن، ولكنها كانت التزاماً واتباعاً لأوامر الله جل شأنه .
فلم تكنْ الهجرةُ النبوية إلى المدينة سياحةً ومتعة أو استكشافاً لعالمٍ جديد، فقد كانتْ خياراً لا مفرّ منه، وحلاً أخيراً بعد أنْ ضاقتْ بالمسلمينَ أرضُ مكةَ بما رحبت، وتغيَّرَ عليهم الناس، لقد كانت الهجرة مغادرةً للأرض والأهل، ووشائج القربى، وصِلاتِ الصداقة والمودة، وأسباب الرزق، والتخلي عن جميع ذلك من أجل العقيدة والإسلام.
لقد لبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه ثلاث عشرة سنة؛ يدعو إلى الله فلم يؤمن بدعوته إلاَّ القليل ، ومع ذلك لم يتسرَّبِ المَلَل إلى نفسه، ولم يخلص اليأس إلى قلبه، وما زالَ هذا شأنه حتَّى عَلِمَ عِلْمَ اليقين بوحي من الله سبحانه أنَّ مَكَّة لن تكونَ مبعث الدَّعوة، ولا مطلع تلك الشمس المشرقَة، فهاجَرَ إلى المدينة المنورة وبذلك انتَقَلَ الإسلام بالهجرة منَ نقطة السُّكون إلى نقطة الحَرَكَة، ومن طَور الخفاء إلى طَور الظُّهور؛ ومن مرحلة منع قتال المشركين إلى مرحلة الإذن بقتالهم ، وبذلك كانت الهجرة مبدأ تاريخ الإسلام؛ لأنَّها أكبر مظهر من مَظَاهره.
إن المتأمل لرحلة الهجرة النبوية المباركة سيجد أنها توثق رحلة مفصلية في تاريخ الإسلام قطعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفيق سفره وصاحب رحلته أبو بكر الصديق رضي الله عنه فالرحلة في حد ذاتها كانت محفوفة بالمخاطر ..فماذا لو أن قريش عثرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في غار ثور لقد كانت فرائص أبي بكر ترتعد وأسنانه تصطك وهو يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولايَكادُ يُبِين ، فقد روى الإمامان البخاري ومسلم وغيرهما بألفاظ متقاربة، منها عن أنس بن مالك أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حَدَّثه قال: نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار، فقلت: يا رسول الله؛ لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه، فقال: يا أبا بكر؛ ما ظنك باثنين الله ثالثهما.
ومدلول كلام النبي صلى الله عليه وسلم وهو يُهَدِّئُ من روع أبي بكر ، ويقتلع الخوف من قلبه ، وينتزع الرعب من فؤاده : يا أبا بكر هل يقدر أحدٌ على أذيتنا والله معنا ، وهو حافظنا ؟
وفي هذا دليلٌ على عظيم ثقة رسول الله صلى الله عليه وسلم بربه وكمال إيمانه وتوكله عليه، واعتماده عليه، وتفويض أمره إليه، والطمأنينة إلى نصر الله .
فقد قال الحق جل شأنه في محكم تنزيله في سورة التوبة على لسان النبي صلى الله عليه وسلم (..لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا .. ) ولم يقل (لا تخف ) لأن الخوف في مجمله هو تَوَقُّعُ أمر مكروه لم يقع بعدُ ، بينما يكون الحزن على ما وقع من المكروه.
لقد كان أبو بكر رضي الله عنه يخاف على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا على نفسه ، فشريط حياة أبي بكر منذ إسلامه حتى وفاته يُثبت بما لا يدع مجالاً للشكِّ أنه كان مُضَحِّياً بنفسه في كلِّ المواقف، وما أصابه مرجعه خوفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان تارة يمشي أمام النبي صلى الله عليه وسلم وتارة عن يمينه وتارة عن يساره وتارة خلفه صلى الله عليه وسلم ؛ يقول أبو بكر في فلسفة ذلك : أخشى أن يأتي الطلب من الخلف فأسعى كي أكون خلفه لأفتديه ، وحين أطمئن تراودني مخاوف أن يأتي الرصد من الأمام فأتقدم أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم لأدفع عنه الخطر وأتلقى الضربة بدلاً منه ، ثم أخشى أن يأتي الطلب من اليمين أو اليسار فأكون تارة هنا وتارة هناك، ولما انتهيا إلى الغار قال مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ الغار ، فدخل فاستبرأه ثم طلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم النزول داخل الغار .
وبوصولهما للغار انتهت مرحلة الخوف عند أبي بكر ، ولكن حين وصل المشركون للغار بدأت مرحلة جديدة هي مرحلة الحزن، ففي الطريق وبعد الخروج من مكة كان يخاف من لحاق القوم بهم أمَا وأن هذه المرحلة قد ولَّتْ ، ووصل الآن المشركون إلى الغار ، فما كان من أبي بكر إلا أن يستحضر ماسيقع بعد ذلك ، الذي هو التسلسل الطبيعي لمجريات الأحداث ، وكأنهم أوقعوا به ، و برسول الله صلى عليه وسلم فحزن – هذا إن لم تكن رعاية الله سبحانه تكلؤهما وعنايته جل شأنه تحيط بهما – فطمأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: لاتحزن يا أبا بكر فلن يحدث شيء مما يدور في خاطرك ويجول في عقلك لأن الله معنا ، وهو ناصرنا ومؤيدنا لامحالة.
لقد كان حزن أبي بكر أن يقع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيدي قريش فيفتكون به فقال : يا رسول الله إن هلكتُ فأنا رجل واحد ، ولكن إن هلكتَ أنتَ هلكتْ أمةٌ بأكملها.
وتعتبر الهجرة علامة فارقة في تاريخ الإسلام لأن الإسلام في مكة كان عبارة عن فكرة و دعوة ؛ أما في المدينة فقد أصبح الإسلام ديناً ودولة .
وكما كانت الهجرة رحلة مفصلية كانت أيضاً مرحلة فاصلة بين عهدين في تاريخ الدعوة الجديدة ، ففترة ماقبل الهجرة كانت بالنسبة للمسلمين فترة الضعف والقِلَّة والاضطهاد وسيطرة الباطل على عكس فترة مابعد الهجرة التي أصبحت فترة القوة والكثرة والهيمنة وريادة الإيمان ، واتخاذ القرار ، وقيام الدولة على أسس متينة في مجتمع المدينة .
ولأن الهجرة النبوية غيَّرَتْ مجرى التاريخ ، ورسمت للحياة وجهاً جديداً ، وبها فرق الله بين الباطل والحق ، فقد اختار الفاروق عمر رضي الله عنه الهجرة النبوية عنواناً للتاريخ الإسلامي ، فبعد الهجرة انطلقت الرسالة السماوية نحو الخلود ، وكانت إتماماً لحضارات إنسانية منذ بداية الخليقة وحتى نهاية العالم، لقد كان الاختيار هنا تركيزاً على المعنى العميق للهجرة التي كانت بدايتها دعماً وتعاضداً من المُصَدِّقين الصادقين لصاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم ، وفراراً بالدِّين الجديد عن الأهل والديار، تلا ذلك يقين بالحق غمرهم بالسكينة والطمأنينة من رب العالمين ،وقوة إيمان سمت بهم ليكونوا في سنين معدودة سادة العالم ، والقوة التي يخشاها الجميع .
وقد أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال الهجرة النبوية، أن يعلم المسلمين الصبر والتضحية وقوة الإرادة وتحمل الصعاب، مع عدم اليأس وفقدان الأمل، وأن يأخذوا بالأسباب بلا تكاسل أو تقاعس عن العمل، وأن يثقوا بالله ويسلموا أمورهم له ، فقد قيل : إن الثقة بالله هي سواد عين التوكل ، ونقطة دائرة التفويض ، وسويداء قلب التسليم ، وهي مدار الإيمان .
فبالهجرة النبوية اجتمعت كلمة العرب وارتفع شأنهم، وعلا قدرهم فبعد أن كانوا شراذم متفرّقين جاء الإسلام ، ووحّد كلمتهم ، وألّف بين قلوبهم، فأخرجهم الله سبحانه من ظلمات الجهل والضلال والكفر، إلى أنوار العلم ، والهداية والإيمان .
وفي الختام نقول: صلَّى الله وسلَّم على صاحب الهجرة سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.