حوى هذا الدستور اثنين وخمسين بندا ، كلها من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خمسة وعشرون منها خاصة بأمور المسلمين ، وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى ، ولا سيما اليهود وعبدة الأوثان .
ولقد وضع هذا الدستور فى السنة الأولى للهجرة ، أى عام 623م .
دستور المدينة أو صحيفة المدينة : تم كتابته فور هجرة النبى – صلى الله عليه وسلم – إلى المدينة المنورة وهو يعتبر أول دستور مدنى فى التاريخ ، واعتبروه الكثيرون مفخرة من مفاخر الحضارة الإسلامية ، ومعلماً من معالم مجدها السياسى والإنسانى .
وقد دون هذا الدستور بشكل يسمح لأصحاب الأديان الأخرى بالعيش مع المسلمين بحرية، ولهم أن يقيموا شعائرهم حسب رغبتهم ، ومن غير أن يتضايق أحد الفرقاء .
لقد أخذ المصطفى صلوات الله وسلامه عليه ينشىء دولة إسلامية تجمع بين الجميع ، بصرف النظر عن الأجناس والديانات ، وبذلك بدأت الدعوة الإسلامية تدخل فى دورها السياسى ، وبدأ المظهر السياسى يبدو فى شخصية المصطفى صلوات الله وسلامه عليه مع المظهر الدينى .
وتضمن الكتاب – أيضا – حرية العقيدة ، وحرية الرأى ، وحرية الهجرة والإقامة ، وتضمن – أيضا – حرمة النفس ، وحرمة المال ، وحرمة الجوار ، وحرمة الوطن ، وكفل نصرة المظلوم ، ومقاومة المعتدى ، وإعانة من أثقله الدين ، وشدد فى تحريم البغى والفساد ، وإيواء الباغين والمفسدين ، وفتح باب الصلح لمن أراد من المسلمين وغير المسلمين ، ودعا الجميع إلى التعاون على البر دون الإثم ، وجعل الاحتكام فيما يكون بين أهل هذا الكتاب من خلاف إلى الله عز وجل ، وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكان الهدف الذى يرمى إليه المصطفى صلوات الله وسلامه عليه أن يعيش الجميع فى وطنهم آمنين على أنفسهم ، وأموالهم ، وأعراضهم ، وأهليهم ، وأن يكونوا أحرارا فى عقائدهم وآرائهم ، وأن يتعاونوا على البر والتقوى ، لا على الإثم والعدوان .
ولقد كانت ( المدينة ) عند مقدم الرسول صلى الله عليه وسلم ، خليطا من عقائد مختلفة ، ومن عناصر لا يربطها نظام ولا وحدة ولا وفاق ، فعمل صلوات الله وسلامه عليه على أن ينظمها ، ويوحد بينها ، ويجمعها تحت جامعة الإنسانية العامة ، ويقيم التعاون بينهما على أساس من الإخاء العام الذى يربط بين الإنسان واخيه الإنسان .
وهكذا أخذ المصطفى صلوات الله وسلامه عليه يضع قواعد المجتمع المثالى الصالح ، الذى يسوده الوئام والحب ، ويعد له الفرد المثالى الصالح ، الذى يقيم صلته بالمولى تبارك وتعالى على الإخلاص فى عبادته ، والعمل على مرضاته ، ويقيم صلته بالناس على التعاون الصادق فى سبيل الخير ، ويعاملهم جميعاً على أنهم إخوة ، فمن وافقه عقيدة الإسلام فهو أخوه فى الله عز وجل .