كلما هلت ذكرى ميلاد الروائي المصري المتفرد إحسان عبدالقدوس في الأول من يناير من كل عام تذكرت الدور المؤثر الذي لعبه هذا الرجل في تطوير فنون الرواية العربية، إذ يعد إحسان بمثابة أول (مؤرخ روائي)، إذا جاز القول، للطبقة المتوسطة وشريحتها العليا التي استقرت في القاهرة والأسكندرية بشكل رئيس. تلك الطبقة التي تشكلت عناصرها الأولية عقب ثورة 1919، حتى اكتمل بناؤها في عهد جمال عبدالناصر مع انتشار التعليم الجامعي والتوسع في مجال الصناعة واتساع الجهاز الإداري للدولة.
تمتع أفراد هذه الطبقة بالتعليم العالي والسكن المريح في الأحياء الراقية آنذاك (الزمالك/ مصر الجديدة/ جاردن سيتي)، وبوجود تليفون في المنزل، وأحيانا يمتلك رب الأسرة سيارة، كما أن ارتياد النوادي الاجتماعية جزء رئيس من عادات هذه الطبقة.
ولأن إحسان عبدالقدوس ابن أصيل لهذه الطبقة، فقد رصد بذكاء خارق مميزاتها ومثالبها، واستفاض في كشف المزيد من خباياها وأسرارها خاصة أعضائها من النساء.
وهكذا تابع القرّاء بشغف ما يكتبه إحسان من روايات وقصص في الخمسينيات والستينيات، وهي السنوات الأكثر غزارة في إنتاجه الفني، حيث كان ينشر فصول رواياته وقصصه مسلسلة في مجلة (روزاليوسف)، تلك المجلة التي أسستها والدته عام 1925. وبالمناسة، والده كان ممثلا رائدًا يدعى محمد عبدالقدوس، وهو الذي لعب دور والد لبنى عبدالعزيز في فيلم (أنا حرة) وهو مأخوذ عن رواية من تأليف ابنه إحسان أيضًا، كما تقمص الرجل دور الباشا العجوز ذي المزاج الفني القديم في فيلم (ليالي الحب/ 1955) لعبدالحليم حافظ، والذي اضطر حليم إلى أن يغني له (يا سيدي أمرك) حتى لا يزج به إلى قسم الشرطة!.
بالاطلاع على مجمل الإنتاج الروائي والقصصي لإحسان عبدالقدوس (1919/ 1990) يمكنني القول بيقين إنه أجرأ كاتب ابتكر عناوين لرواياته وقصصه، فقبل إحسان كانت أسماء الرواية من كلمة أو كلمتين (مضاف ومضاف إليه على الأغلب) مثل (زينب/ دعاء الكروان/ سارة/ عودة الروح/ خان الخليلي/ السراب..) وهكذا. كانت هذه الصياغات للعناوين لا تصدم القارئ ولا تستثيره، فلما اقتحم إحسان المشهد الروائي فوجئ الناس برجل يملك جسارة لغوية لم تخطر على بال أي أديب من قبل، فانفعلوا وتساءلوا وتمتعوا.
خذ عندك نماذج لبعض عناوين روايات إحسان وقصصه مع مراعاة أن بعضها كتب قبل أكثر من ستين وخمسين عامًا (لا أنام/ الوسادة الخالية/ الطريق المسدود/ أنا حرة/ في بيتنا رجل/ لا تطفئ الشمس/ النظارة السوداء/ أبي فوق الشجرة/ الخيط الرفيع/ امبراطورية م/ أنف وثلاث عيون/ شيء في صدري/ الرصاصة لا تزال في جيبي/ أنا لا أكذب لكني أتجمل/ لن أعيش في جلباب أبي/ العذراء والشعر الأبيض/ يا عزيزي كلنا لصوص) وغيرها. وأظن أن معظم من كتبوا بعده انفعلوا بابتكاراته اللغوية الجديدة هذه، حتى نجيب محفوظ نفسه تأثر بهذا المنطق في صياغة العناوين، فكتب (ثرثرة فوق النيل/ الباقي من الزمن ساعة) على سبيل المثال.
أذكر أن الراحل رجاء النقاش قال لي مرة إن السينما المصرية كانت تشتري الرواية من إحسان مقابل سبعة آلاف جنيه، بينما تعطي نجيب محفوظ ألف جنيه فقط عندما يحولون إحدى رواياته إلى فيلم!
في ذكرى ميلاده العطرة سلام على روح إحسان عبدالقدوس.