تحل غدا ـ الأربعاء 30 أغسطس ـ الذكرى السابعة عشرة لوفاة أديبنا الكبير نجيب محفوظ، وبهذه المناسبة أهدانى الروائى والناقد الكبير د. حلمى محمد القاعود، الأستاذ بكلية الآداب جامعة طنطا، كتابه الجديد ” متنبي الرواية نجيب محفوظ : آليات التشكيل الفنى فى رواياته”، الذى يقدم فيه قراءة لروايات “القاهرة الجديدة” و “الكرنك” و “الحرافيش” و”قلب الليل” و “الطريق” و”رحلة ابن فطومة” و “الباقى من الزمن ساعة”، ويتعرض لجوانب خاصة فى شخصية نجيب محفوظ وفق منهج نقدي جمالي متكامل، بلغة بسيطة واضحة، تسعى لإبراز تفوق أديب نوبل فى صياغته وأسلوبه وحرصه على لغة شعرية متقنة، فيها رفيف الخيال وطلاء الأداء، وهذا ماحمله على أن يلقبه بـ “متنبي الرواية ” احتذاء بشاعر العربية الأشهر ” المتنبي”.
و يكشف د. القاعود أنه كان من أوائل النقاد الذين تنبهوا لتفرد محفوظ وبراعته وملكته الأدبية، وكتب عنه فى ستينيات وسبعينيات القرن العشرين العديد من المقالات والدراسات فى الصحف والمجلات المصرية والعربية.
ومن أخص ما تميز به هذا الكتاب التركيز بشكل موضوعى على قضية الدين عند نجيب محفوظ، فى شخصيته وأدبه، وهو ما لا أظن أن ناقدا قد تناوله من قبل بهذا الانفتاح العقلى الواعى، دون تحيز ودون مجاملة.
يقول د. القاعود إن أفكار نجيب محفوظ تجاه الدين قد تطورت عبر مراحل وتجارب عديدة مر بها، وفى كلمته التى ألقيت نيابة عنه يوم تسلم جائزة نوبل، عبر أديبنا الكبير عن انحيازه إلى الحضارة الإسلامية، بعد أن ذكر أنه “ابن حضارتين”، الفرعونية والإسلامية، ومما قاله فى ذلك:” لن أحدثكم عن حضارة الإسلام ودعوتها لإقامة وحدة بشرية فى رحاب الخالق، تنهض على الحرية والمساواة والتسامح، ولا عن عظمة رسولها، فمن مفكريكم من كرمه كأعظم رجل فى تاريخ البشرية، ولا عن فتوحاتها التى غرست آلاف المآذن الداعية للعبادة والتقوى والخير على امتداد أرض مترامية ما بين مشارف الهند والصين وحدود فرنسا، ولا عن المؤاخاة التى تحققت فى حضنها بين الأديان والعناصر، فى تسامح لم تعرفه الإنسانية من قبل ولا من بعد، ولكنى سأقدمها فى موقف درامى مؤثر، يلخص سمة من أبرز سماتها، ففى إحدى معاركها الظافرة مع الدولة البيزنطية ردت الأسرى فى مقابل عدد من كتب الفلسفة والطب والرياضة من التراث الإغريقى العتيد، وهى شهادة قيمة للروح الإنسانية فى طموحها إلى العلم والمعرفة، رغم أن الطالب يعتنق دينا سماويا، والمطلوب ثمرة حضارة وثنية”.
ويختزل د. القاعود رؤية محفوظ للدين فى ثلاثة محاور، تتعلق بتكوينه الفكرى وعلاقته الشخصية بالإسلام، ثم مادار حول روايته الشهيرة “أولاد حارتنا”، وما ارتبط بها من تأويلات وتفسيرات، وأخيرا ما بعد مرحلة “أولاد حارتنا”، وتحديدا ماجرى بعد حصوله على جائزة نوبل، من كتاباته وتصريحاته.
يخبرنا محفوظ أن من بين أساتذته الذين تأثر بهم فى صباه وشبابه الشيخ نجاح معلم اللغة العربية، والشيخ مصطفى عبد الرازق أستاذه فى الجامعة، أما الشخصية الأكثر تأثيرا فى فكره وتصوراته فهي شخصية الأديب والمفكر اليسارى سلامة موسى، فمن خلاله عرف الشاب نجيب معنى “الفابية” و”الاشتراكية” وحرية الفكر، وكل المصطلحات الغربية الجديدة، وفى مرحلة المراهقة قام بممارسات وتجاوزات سلوكية غير مشروعة، كانت تصطدم بالإحساس الدينى، وهو على أشده فى تلك الفترة، لدرجة أنه كان يتوجه إلى الله بالتوبة يوميا، ويعيش فى عذاب مستمر من تأنيب الضمير.
وكما نرى فإن البداية التى صنعت تفكير محفوظ وأحاسيسه هي بداية إسلامية، ثم تحول عن هذه البداية إلى سلوكيات مغايرة، لدرجة أن يصف نفسه بـ”الحيوان الجنسى”، وفى مناسبات أخرى يتحدث عن الحشيش والمخدرات، وهو مايعنى أن الرجل ليس معنيا بالإسلام بوصفه مصدرا للتصور أو الفكر، وإن لم يعلن صراحة معاداته، أو الدخول فى خصومة فكرية معه.
ورغم تأثره بكتابات سلامة موسى فى فكرة موت الإله، التى تبلورت فى موت الجبلاوى، بطل رواية “أولاد حارتنا”، إلا أنه كان دائم الحرص على تأكيد علاقته بالقرآن الكريم، وقراءته له ولتفاسيره، وتأثره بقصصه، وحبه لتلاوة كبار القراء فى زمانه، وظهر ذلك واضحا فى رواية “أحاديث الصباح والمساء”.
وعندما أثارت “أولاد حارتنا” عاصفة من الصخب بسبب ما تضمنته من إشارات ورموز فيها إساءة للدين وللأنبياء وللذات الإلهية، حرص محفوظ على التأكيد فى أكثر من مناسبة أن الرواية لا تعادى الإسلام، وإنما كانت محاولة لجعل القصة الكونية غطاء للمحلية، والمغزى الأساسى لها هو أنها حلم بالعدالة، وبحث دائم عنها، والإجابة عن سؤال جوهرى:هل القوة هى السلاح لتحقيق العدالة، أم الحب، أم العلم؟
وهنا يرى د. القاعود أن “كاتبا يخطئ فى تصوراته حين يكتب رواية ما ليس نهاية العالم، وحين يسعى إلى إنتاج روايات أخرى تقوم على تصورات أكثر نضجا فهو كاتب يستحق التقدير والاحترام”، ويشير إلى حرص محفوظ على الإعلان عن إيمانه العميق، وينقل قوله :”إن فى أعماق قلبى وروحى إيمانا بالله لم تنتزعه منى دراستى للفلسفة، ولا تفكيرى المتصل فى مشاكل الإنسان والمجتمع والكون”، كما ينقل من رسالته إلى ندوة للأهرام قوله :” إن أي مشروع حضارى عربى لا بد أن يقوم على الإسلام وعلى العلم”.
ويشهد محمد صبرى سكرتير محفوظ الخاص أنه كان يصلى، ويحرص على أن يتيمم نظرا لظروفه المرضية، وقام ببناء مسجد فخم من طابقين فى قرية العزيزية على طريق “القاهرة ـ الاسكندرية” الصحراوى، وتكفل بأجور العمال والإمام والقائمين على تحفيظ القرآن الكريم فيه، وكان يذهب فى المناسبات ليوزع الصدقات ويقضى بعض الوقت هناك، وما زالت ابنته تقوم بهذه الزيارة.
يرحم الله نجيب محفوظ.