استغلت الولايات المتحدة هيمنة الدولار الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية، لتحقيق مكاسب من خلق وتدفق ثروة العالم.
لقد استخدمت الولايات المتحدة هيمنة الدولار لزيادة المخاطر المالية التي تواجهها الدول النامية ونهب ثرواتها، من بينها الموارد والعقارات، والحصول على الحق في احتكار صناعات الخدمات العامة في هذه الدول، من بينها المياه والكهرباء والنقل.
ففي دول أمريكيا اللاتينية التي تبنت توافق واشنطن، انخفض معدل النمو الاقتصادي التسعينيات بواقع 50 بالمئة في المتوسط مقارنة بالثمانينيات.
لقد تلاعب “القتلة الاقتصاديون” الأمريكيون الذين يرتدون عباءة الاقتصاديين والمصرفيين والمستشارين الماليين الدوليين القانونية، بدول أخرى عن طريق الوسائل الاقتصادية، وخدعوا الدول النامية ليسقطوا في فخاخ اقتصادية معدة مسبقا، وسيطروا على شريان الحياة الاقتصادي والموارد الطبيعية لهذه الدول، وجعلوا الأموال تتدفق إلى الولايات المتحدة باستمرار، وعززوا ووسعوا هيمنة الولايات المتحدة الاقتصادية والسياسية والعسكرية في العالم، وفقا لما قال الاقتصادي الأمريكي جون بيركنز في كتابه (اعترافات قاتل اقتصادي) الذي نشر عام 2004.
لطالما كانت هذه هي الحال في التجارة الدولية: الولايات المتحدة تطبع دولارات والدول الأخرى في العالم تحول الموارد والبضائع إلى دولارات في التجارة العالمية، ثم تشتري سندات الخزانة الأمريكية والأوراق المالية للشركات بصفتها احتياطيات النقد الأجنبي، ما يمكن الدولار الأمريكي من التدفق مرة أخرى إلى الولايات المتحدة ودعم الاقتصاد الأمريكي. وقد وصف المؤرخ الأمريكي نيال فيرغسون هذه الظاهرة بأنها “أكبر غداء مجاني في التاريخ الاقتصادي الحديث”.
وعلى الرغم من تضخم العجز المالي ودين الحكومة، لا تزال الديون الأمريكية تتمتع بمعدلات فائدة منخفضة بفضل هيمنة الدولار الأمريكي، ما يسمح للولايات المتحدة بجمع الأموال من حول العالم بتكاليف منخفضة جدا.
وبالاعتماد على هيمنة الدولار، أصبحت الولايات المتحدة تتمتع بامتياز طباعة النقود دون قيود تقريبا.
وبعد الأزمة المالية عام 2008، أطلق بنك الاحتياطي الفيدرالي ثلاث جولات من سياسات التيسير الكمي منذ نهاية 2008 حتى أكتوبر 2014، مما أدى إلى تحويل الأزمة إلى العالم كله من خلال الإفراط في إصدار الدولارات.
ومنذ تفشي كوفيد-19، عاد البنك مرة أخرى إلى وضع “التيسير الفائق” الذي يجسد معدل فائدة صفري وتيسير كمي غير محدود من أجل تحفيز الاقتصاد الأمريكي وسوق الأسهم. وبعد تولي إدارة بايدن السلطة، تم طرح خطة تحفيز اقتصادي بقيمة 1.9 تريليون دولار، سريعا.
والأجدر بالذكر هو أنه في كل مرة ينقذ فيها البنك السوق الأمريكية، لا يعود النفع على الأشخاص العاديين وإنما يعود على واحد بالمئة من الصفوة الأمريكية، الذين يحصلون تقريبا على جميع أرباح الولايات المتحدة القادمة من حول العالم. وتضم النسبة أكثر المجموعات قوة والممولة جيدا، من بينها شركات الإنترنت العملاقة، ووول ستريت، وصناعة التأمين الصحي، وشركات الأدوية، وصناعة الوقود الأحفوري، والمجمع العسكري-الصناعي.
توسعت الصناعات المالية وصناعات التكنولوجيا الفائقة الأمريكية سريعا خلال جائحة كورونا، وحصلت شركات أمريكية كبيرة على إعانات هائلة من حزم التحفيز الاقتصادي. وفي الوقت نفسه، تدفقت معظم الدولارات الزائدة إلى سوق الأسهم، مما أدى إلى زيادة تضخم ثروة الأثرياء. ووفقا لبيانات نشرها موقع ((فوربس)) الأمريكي في يناير هذا العام، على الرغم من أن عشرات الملايين من الأمريكيين فقدوا وظائفهم خلال جائحة كورونا العام الماضي، فإن الثروة الإجمالية لما يزيد على 650 ملياردير أمريكي زادت 1.3 تريليون دولار، زيادة بواقع 38.6 بالمئة، بينما زادت ثروة أغنى خمسة أمريكيين من 358 مليار دولار إلى 661 مليار دولار في الإجمالي، زيادة بنسبة 85 بالمئة.
لقد خلقت طباعة الأموال بشكل جنوني وهم الرخاء المؤقت في الولايات المتحدة، لكنها تحمل مخاطر كبيرة. يتجاوز كشف الميزانية لبنك الاحتياطي الفيدرالي الآن 8 تريليونات دولار، ويقف الدين الوطني الأمريكي عند 28.5 تريليون دولار، وقد خفضت وكالة فيتش توقعها بشأن التصنيف الائتماني السيادي للولايات المتحدة إلى “سلبي” في يوليو 2020، قائلة إن ارتفاع الديون والعجز أدى إلى تآكل الائتمان السيادي للولايات المتحدة.
ستؤدي ممارسة الولايات المتحدة لطباعة النقود لجعل دول أخرى “تدفع” عنها عجزها، إلى تعرض هيمنة الدولار الأمريكي للخطر في النهاية. فخلال السنوات القليلة الماضية، من أجل التخلص من هيمنة الدولار، سرعت روسيا والاتحاد الأوروبي والصين ودول أخرى الجهود المبذولة لتقليل الاعتماد على الدولار. وقال جورج سوروس في عام 2018، إن الدولار سيخسر وضعه بصفته العملة الاحتياطية الرئيسية في العالم ووسيلة تبادل خلال السنوات القليلة المقبلة.
— الولاية القضائية طويلة الذراع
قدم فريديريك بيروتشي المدير التنفيذي السابق لشركة (ألستوم)، في كتابه الذي نشر عام 2019 بعنوان “الفخ الأمريكي” وصفا مباشرا ومعلومات مباشرة لقمع واشنطن للشركة تحت مسمى مكافحة الفساد.
وقد أشار في الكتاب إلى أن الولايات المتحدة تمكنت من تفكيك العديد من الشركات الأوروبية متعددة الجنسيات الكبيرة خلال أكثر من عقد، تحت ذريعة مكافحة الفساد.
وخلال السنوات الماضية، استغلت واشنطن وسائل من بينها، الولاية القضائية طويلة الذراع والعقوبات الاقتصادية، لاحتواء أعدائها والدول المنافسة، ما يؤدي إلى إعاقة تنميتهم للحفاظ على سيادتها.
فعلى سبيل المثال، سنت الولايات المتحدة قانون مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات لتوسيع عقوباتها ضد روسيا وجمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية وإيران. وفعلت المادة الثالثة من قانون هيلمز-بورتون لتعزيز الحظر الذي تفرضه على كوبا وفرضت عقوبات أحادية على شركات أجنبية لها علاقات اقتصادية مع كوبا.
وقد واصلت الولايات المتحدة توسيع نطاق تطبيق قوانينها المحلية خارج الحدود ووضعت أفرادا أجانب وكيانات أجنبية تحت ولايتها القضائية بشكل قسري، متجاهلة قواعد الولاية القضائية في القانون الدولي.
ووفقا لقوانينها المحلية، تمتلك الولايات المتحدة حق الوصول إلى بيانات المستخدمين ونقل معلومات من بنوك أوروبية عديدة عن طريق جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك. وخلال السنوات القليلة الماضية، هاجمت وزارة العدل الأمريكية والجهات التنظيمية المالية ذات الصلة شركات أوروبية بشكل مستمر، وتم اتهام بعض الشركات “بالفساد” أو انتهاك الحظر الأمريكي للتجارة مع كوبا وليبيا وجمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية وإيران ودول أخرى، وتم تغريمها مئات الملايين أو حتى مليارات الدولارات، بحسب علي لايدي، باحث في المعهد الفرنسي للشؤون الدولية والاستراتيجية.
وقد أدت هذه الأفعال إلى إلحاق مشقة مروعة وأزمات إنسانية لم تكن أقل تدميرا من الحروب، ببعض الدول. فمنذ ظهور جائحة كورونا، شهدت فنزويلا وسوريا وإيران، الدول التي تخضع للعقوبات الأمريكية منذ فترة طويلة، تدهورا في الأوضاع الاقتصادية والطبية، بالإضافة إلى الوضع الوبائي الحاد في الداخل. ومع ذلك، استمرت واشنطن في فرض العقوبات، مما أدى إلى زيادة الوضع سوءا في هذه الدول.
وقال الرئيس الإيراني حسن روحاني في ذلك الوقت في سبتمبر 2020 إن “الأمريكيين ألحقوا أضرارا بالشعب الإيراني تقدر بـ150 مليار دولار، بسبب العقوبات غير القانونية وغير الإنسانية”.
لقد حرفت الولايات المتحدة القواعد الاقتصادية لتستخدمها عندما تتناسب مع مصالحها.
وفي ظل إدارة ترامب، رفضت الولايات المتحدة رسميا وضع اقتصاد السوق للصين في الوثائق التي تم تقديمها لمنظمة التجارة العالمية وأثارت نزاعات تجارية مع الصين، وفرضت سلسلة من العقوبات الأحادية على شركات التكنولوجيا الفائقة الصينية، بهدف تقويض أمن الصين واستقرارها وكبح تنميتها. وبعد تولي بايدن السلطة، واصلت إدارته إساءة استخدام سلطة الدولة، وقدمت سلسلة من مشروعات القوانين والأوامر التنفيذية لقمع وتقييد شركة (هواوي) وشركات صينية أخرى بكل الوسائل الممكنة.
كما قمعت الولايات المتحدة حلفاءها. فبعد الحرب العالمية الثانية، واجه النمو الاقتصادي السريع في اليابان قمعا لا يرحم من الولايات المتحدة، كما ظهر في اتفاق بلازا. وخلال بناء خط أنابيب (نورد ستريم 2) بين روسيا وألمانيا، افترضت الولايات المتحدة أن المشروع يضر بمصالحها في المنطقة، وفرضت عدة جولات من العقوبات لعرقلة تقدم المشروع، ما أثار استياء شديدا من حلفائها الأوروبيين، من بينهم ألمانيا.
ــ عرقلة النظام الدولي
اعتمادا على قوتها العظمى، تستخدم الولايات المتحدة “الاستثنائية الأمريكية” أساسا نظريا لتطأ بقدميها على العلاقات الدولية بشكل جائر.
وبينما تطلب من الدول الأخرى الالتزام بالنظام الدولي القائم على القواعد، فإنها تضع مصالحها الخاصة منذ فترة طويلة فوق النظام الدولي القائم على القانون الدولي، وفي القلب منه الأمم المتحدة.
ورغم أن الولايات المتحدة قادت إنشاء أنظمة وقواعد دولية للحوكمة السياسية والاقتصادية العالمية بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أنها عادة ما تخرق القواعد وتنسحب من المنظمات الدولية طالما أنها لا تفي بمتطلبات الولايات المتحدة. ومنذ الثمانينيات، ترفض الولايات المتحدة التصديق على العديد من المعاهدات أو تنسحب منها ومنظمات دولية من جانب واحد، مثل اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، والمؤتمر العالمي لمكافحة العنصرية، وبروتوكول كيوتو.
وكانت إدارة ترامب متعمدة بشكل خاص سحب الولايات المتحدة من أكثر من 10 منظمات واتفاقيات دولية في غضون أربع سنوات، مثل مجلس حقوق الإنسان الدولي، وخطة العمل الشاملة المشتركة، ومعاهدة القوى النووية متوسطة المدى.
وكانت الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي عارضت المفاوضات بشأن بروتوكول التحقق لمعاهدة حظر الأسلحة البيولوجية، ما أعاق جهود المجتمع الدولي للتحقق من الأنشطة البيولوجية في مختلف البلدان، وأصبح حجر عثرة في سبيل ضبط التسلح البيولوجي.
لم تنسحب الولايات المتحدة كثيرا من المجموعات الدولية فحسب، بل عاقبت أيضا أي مجموعة تجرأت على تحديها. ففي عام 2020، أعلنت إدارة ترامب أنها ستفرض عقوبات اقتصادية وقيود سفر على مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية المشاركين في التحقيق في الإجراءات الأمريكية في الحرب الأفغانية ــ في خطوة هي الأسوأ من رفضها السابق الاعتراف بأحكام المحكمة الجنائية الدولية وتنفيذها، أو التعاون مع تحقيق المحكمة الجنائية الدولية. وقد أظهر هذا مجددا أن الولايات المتحدة تفضل تدمير “الأسلحة العامة” إذا لم يكن من الممكن استخدامها لأغراضها الخاصة.
وقد عاودت إدارة بايدن الانضمام إلى بعض المنظمات والاتفاقيات الدولية لخدمة استراتيجياتها الوطنية فحسب، وابتعدت عن الاتفاقيات التي تعتقد أنها ستضر بمصالحها، مثل معاهدة السماوات المفتوحة. وبينما روجت إدارة بايدن لـ”التعددية الانتقائية”، تم التعليق عليها من جانب بعض وسائل الإعلام الأوروبية على أنها “أمريكا أولا 2.0”.
في الواقع، لم تُظهر الولايات المتحدة أبدا أي تعاطف مع دول أو خصوم أو حلفاء آخرين، إذا كانوا لا يخدمون مصالح الولايات المتحدة. وفي الأعوام الأخيرة، دأبت الولايات المتحدة على مطالبة الناتو وحلفائه الآسيويين بزيادة إنفاقهم العسكري ودفع المزيد من “رسوم الحماية” للولايات المتحدة لإرسال قواتها.
وقبل رحلة بايدن إلى أوروبا في يونيو، تم الكشف عن تجسس الولايات المتحدة على سياسيين من حلفائها الأوروبيين، وهي فضيحة أخرى بعد مشروع (بريسم) في عام 2013. وأظهر ذلك مجددا أن الولايات المتحدة كانت تنفذ أنشطة مراقبة واسعة النطاق وهجمات سيبرانية على مستوى العالم لفترة طويلة، وأنها، بصفتها إمبراطورية حقيقية من القراصنة، باتت أكبر تهديد للأمن السيبراني العالمي.
وتشبه جائحة كوفيد-19 مرآة سحرية كشفت قبح سياسة “أمريكا أولا”. لقد انخرطت الولايات المتحدة في الأحادية منذ تفشي الجائحة: فقد صادرت إمدادات مكافحة المرض الموجهة إلى دول أخرى، وفرضت حظرا على إمداداتها الطبية، واشترت كل القدرات الإنتاجية للعقاقير التي يمكن استخدامها لعلاج المرض.
لقد صدمت أفعالها الأنانية العالم وألحقت أضرارا بالغة بالتعاون العالمي لمكافحة المرض. وفي حين أن اللقاحات قد منحت الأمل في المعركة العالمية ضد المرض، فقد تمسكت الولايات المتحدة بـ”قومية اللقاحات”، وسارعت لطلب وشراء اللقاحات، حتى تلك التي لا تزال تخضع للتجارب السريرية، ووضعت بعض البلدان والمناطق الأقل نموا في وضع يائس دون القدرة على الوصول إلى اللقاحات.
01277691834