تبدو العلاقات الأمريكية الصينية أقرب للمواجهة منها إلى المنافسة في الآونة الأخيرة، وهو ما دفع الكثيرون للحديث بأن العالم على أعتاب حربٍ باردةٍ جديدةٍ توشك أن تندلع بين القوتين الاقتصاديتين العظميين، والتي تتجلى أبرز مظاهرها في السنوات الأخيرة في حرب تجارية ضارية تتهم فيها الولايات المتحدة الصين بالقيام بممارسات تنتهك قواعد منظمة التجارة العالمية، وترد عليها الصين برفضها للهيمنة ولعقلية الحرب الباردة التي تتعمد إثارة التوترات.
ومن ثم، يتبادل أكبر اقتصادان في العالم فرض رسوم جمركية على بضائع بعضهما البعض تصل قيمتها لمليارات الدولارات. وبينما تنشغل العديد من الاتجاهات الأكاديمية والسياسية بمدى فعالية أو عجز التعريفات الجمركية في تحقيق نتائجها وتأثيرها على اقتصاد الدولتين، ومدى نجاح أو فشل آليات الاعتماد المتبادل في تذويب الخلاف بين الاقتصادين العالميين في ظل انعدام الثقة بينهما، يُرجع البعض الأسباب الحقيقية لتلك الحرب التجارية إلى التنافس على الهيمنة الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين، والذي يرافقه تنافس عسكري وجيوسياسي، وحتى تنافس على تقديم أنماط مختلفة للقيادة الإقليمية والعالمية.
لقد شهدت العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والصين عبر تاريخها العديد من التقلبات والمنعطفات، تمثل آخرها في الأزمة التي يُمكن وصفها بالحرب التجارية. ففي عام 2018، رفعت الولايات المتحدة -دون تمهيد- التعريفات الجمركية على ما يقرب من 50٪ من الواردات من الصين، حيث زادت متوسط التعريفة الجمركية الأمريكية على الواردات الصينية من 3 إلى أكثر من 12٪، وهو ما أدى إلى رد فعل مماثل من الصين التي فرضت هي الأخرى تعريفات جمركية على واردات الولايات المتحدة، ورفعت متوسط التعريفة الجمركية الصينية على صادرات الولايات المتحدة من أقل من 10٪ إلى أكثر من 18٪. ويُطلق على هذه الأنواع من التبادل لفرض التعريفات اسم “الحرب التجارية”، ويتأثر بها النظام الاقتصادي الدولي والتجارة الدولية بشكلٍ ملحوظ. ويكمن خلف ذريعة الحرب التجارية، التنافس بين أكبر اقتصادين في العالم من أجل الهيمنة والمكانة والثروة العالمية، فالولايات المتحدة تتهم الصين بانتهاج سياسات تجارية غير عادلة
أصبح التوتر المتزايد بين الصين وعدد من الدول في جنوب شرقي آسيا حول المياه المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي واحدة من أکبر النقاط المحتملة للتصعيد، خاصةً في اطار الصعود الصيني المتنامي، والذي قد يمثل –بدرجة أو أخرى- أحد مهددات الأمن والسلام بالنسبة لعدد من دول الإقليم، ودعاوى الدول المتنازعة حول حقوق الموارد في بحر الصين الجنوبي، الأمر الذي يفرض ضرورة الحاجة إلى تحليل آليات التعامل الصيني مع هذه النزاعات. ومع التواجد الأمريكي في الإقليم أصبحت تعامل أمريکا مع هذه “المشکلة الآسيوية” بمثابة اختبار جوهري للوضع المستقبلي للأولوية الأمريکية، حيث تواجه –الولايات المتحدة- اختباراً حاسماً لإثبات قدرتها على الهيمنة ومهاراتها العسکرية والدبلوماسية لحماية حلفائها وأصدقائها أثناء التنقل من خلال التنافس مع الصين الصاعدة. ومن هذا المنطلق، يحلل هذا البحث التغير في سياسة الصين تجاه النزاعات الإقليمية في بحر الصين الجنوبي، خاصةً مع التنامي الاقتصادي والعسکري لديها، والأثار المستقبلية لهذه القضية على العلاقات الصينية الأمريکية ومستقبل التفوق الأمريکي في آسيا.
بشکل عام، يمکن القول بأن النزاعات الإقليمية المستمرة في بحر الصين الجنوبي لها آثار هائلة على الأمن العام في آسيا وخارجها، ويمکن النظر إليها کحالة اختبار حرجة من شأنها أن تضيء آفاق قدرات بکين واستعدادها لتغيير الوضع الإقليمي الحالي وسط التنافس الجيوسياسي بين القوات الأمريکية -التي ما زالت بارزة-، والجيش الصيني السريع التحديث في عصر العولمة. حيث ترتبط الدولتان -بشکل لا ينفصم- استنادًا إلى روابط القضية المختلفة والمصالح الاقتصادية المتشابکة عن کثب.
فقد أصبح التعامل الأمريکي مع ما يسمى “بالمشکلة الآسيوية” يمثل اختباراً هاماً للوضع المستقبلي للأولوية الأمريکية، حيث تواجه فرصاً حاسمة لإثبات قدرتها على الهيمنة ومهاراتها العسکرية والدبلوماسية لحماية حلفائها وأصدقائها، من خلال التنافس مع الصين الصاعدة. وبالتالي، قد تکون المنافسة بين الولايات المتحدة الأمريکية والصين أمراً لا مفر منه، خاصة بالنظر إلى سعي کل منهما بإستمرار لتوسيع نفوذهما الجغرافي والاستراتيجي ومصالحهم الوطنية.
وعليه، فمن المرجح أن تتوسع المصالح والطموحات الأساسية للصين مع توسع قوتها الاقتصادية والدولية، ومع ذلک، فإن نوايا الصين واستعدادها لاستخدام هذه القوة ليست محددة سلفًا، ولا يمکن التنبؤ بها في المستقبل القريب. ذلک لصعوبة تحديد الخيارات التي تتخذها الدول الأخرى فيما يتعلق بالصين، وکذلک، عامل الجمهور الصيني والذي لديه حساسية لأي إجراءات خارجية تتخذ ضد البلد.
فلا يمکن للنخبة السياسية الصينية تحمل إستراتيجية تصالحية للنهوض السلمي إذا کان القيام بذلک قد يبدو أکثر من اللازم لحماية مصالح الصين الوطنية وکبريائها، خاصةً في اطار وصف دول أخرى الصين بأنها تهديد أو محرض للتوترات الإقليمية. ومع ذلک، فإن أولوية الولايات المتحدة من حيث الحفاظ على التفوق الأمريکي والمصداقية کضامن أمن إقليمي من المرجح أن تجعل الولايات المتحدة مترددة في إفساح المجال لتأکيد الصين المتزايد في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، والتي تعتبرها الصين مجال نفوذها التقليدي.
هذا، يمکن أن يؤدي ذلک إلى زيادة الصدام المحتمل بين القوتين العظميين، مع تحول نزاعات بحر الصين الجنوبي إلى نقطة انطلاق. يؤکد “جوزيف س. ناي” أنه على مر التاريخ، عندما تخلق قوة صاعدة الخوف بين جيرانها والقوى العظمى الأخرى، يصبح الخوف سببًا للصراع، حتى مع الأحداث الصغيرة التي تؤدي إلى سلسلة من ردود الفعل غير المقصودة والکارثية. بمعنى أنه يمکن للمخاوف المبالغ فيها وغير المدارة أن تنتج صراعات حقيقية.
فعلى الرغم من حقيقة أن لکل من بکين وواشنطن، إلى جانب أعضاء الآسيان، مصالح مشترکة في حماية حرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي ذي الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية، غير أنه في الواقع، کانت هذه المصالح المتبادلة قوية بدرجة کافية لتلقي بظلالها على الجوانب المدرة للنزاع في الخلافات الإقليمية للصين مع جيرانها أو التنافس الصيني-الأمريکي، الناجم عن سياسات التحالف والشکوک المتبادلة فيما يتعلق بالتوجهات الاستراتيجية لکل منهما في المنطقة.
وعليه، تصبح من الأهمية بمکان أن يجد الجميع طرقاً للإتفاق على حلول سلمية لنزاعات بحر الصين الجنوبي، بما في ذلک حلول: التنمية المشترکة والبنية التحتية المشترکة والاستثمار المنسق، وکذلک اللجوء للتحکيم الدولي. على الرغم من تعدد المقترحات السلمية حول حل نزاعات بحر الصين الجنوبي، إلا إنها لن تؤتي ثمارها ولن تکون ذات فعالية إلا إذا کان جميع الأطراف تهتم بالتوفيق بين أهدافهم عن طريق تقديم بعض التنازلات، وتغيير وجهات النظر حول أولوياتهم.
من بين الخطوات الهامة نحو تسوية نزاعات بحر الصين الجنوبي، بذل الجهود لتهدئة الشکوک المتبادلة فيما يتعلق بالنوايا الإستراتيجية للدول وبعضها البعض، والسيطرة على القومية المتصاعدة في جميع أنحاء المنطقة من خلال الحوار، فالتعامل مع مهمة بناء الثقة ليس کشرط مسبق بل تحدٍ وهدفً نهائي. فإذا تم تحديد أولوية الصين للسعي إلى حل سلمي بدلاً من فکرة توسيع السيادة، واللجوء إلى فکرة استخدام قانون البحار للمساعدة في فصل السيادة عن الاستغلال التجاري والتنمية المشترکة لصيد الأسماک والنفط، سيساهم تعزز مصداقية الصين کقوة محبة للسلام ويبطل فکرة التهديد الصيني.
أضف إلى ذلک، يتعين على الصين أن تسعى لتحقيق سياسة اللجوء السلمي لحل الخلافات بشکل واقعي، وليس فقط من خلال الخطابات. فعلى المستوى الخطابي، أشادت بکين مراراً بعزم “النهوض السلمي” ومفهوم الأمن الجديد للترتيبات الأمنية الإقليمية، ومع ذلک، وفي الممارسة العملية، فقد تعاملت بکين بشکل سيئ في إزالة العديد من الحواجز لجعل تلک الرؤية ذات مصداقية. علاوة على ذلک، کانت الصين غير فعالة في تقديم خارطة طريق مفصلة لنوع النظام الإقليمي السلمي الذي تبشر به علانية
ولا تقتصر محاولات الولايات المتحدة على تقيييد وصول الصين لتحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال صناعة الرقائق الإلكترونية على الإجراءات الوطنية أو الحرب التجارية الثنائية بينهما، بل تمتد الضغوط الأمريكية لتشمل الدول الأخرى التي تستطيع إنتاج تكنولوجيا الرقائق أو تصميمات الرقائق أو خطوط الإنتاج نفسها، مثل هولندا واليابان اللتان تمتلكان تكنولوجيا إنتاج وتصميم الرقائق، وتايوان وكوريا الجنوبية اللتان تمتلكان خطوط إنتاج الرقائق.
وفي هذا الصدد، تسعى الولايات المتحدة لتحويل الضوابط أحادية الجانب إلى ضوابط متعددة الأطراف، من خلال إشراك أكبر الدول المنتجة لأشباه الموصلات في العالم، ولاسيما اليابان وهولندا، من أجل ضمان تأمين سلاسل توريد أشباه الموصلات ومنع الصين من الوصول إلى الطليعة في هذه التكنولوجيا. ففي مارس عام 2022، اقترحت الولايات المتحدة تشكيل تحالف (Chip 4) كجزء من مخطط أوسع يهدف إلى تعزيز أمن ومرونة سلاسل توريد أشباه الموصلات، وذلك عن طريق تقليل اعتماد العالم على الرقائق المصنوعة في الصين، وتشمل المبادرة اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، وكلها تتفوق في قطاعات معينة من صناعة أشباه الموصلات. حيث يهدف التحالف إلى إعادة هيكلة سلسلة التوريد العالمية لأشباه الموصلات، بحيث تصبح أقل اعتمادًا على الصين من خلال تنويع قدرات التصنيع جغرافيًا بعيدًا عن بكين، وحماية الملكية الفكرية للشركات من الدول الأعضاء، وتنسيق ضوابط محددة على الصادرات فيما يتعلق بالصين.
01277691834