رغم المآسى التى تعيشها أمتنا فإن علينا واجب الاحتفاء بالقرار الذى اتخذته الطوائف المسيحية فى الدول العربية لإلغاء مظاهر الاحتفال بأعياد الميلاد هذا العام، ومنع الاستقبالات الرسمية والتهانى والأفراح، واقتصار قداس الميلاد على الصلوات والشعائر الدينية للكهان، تضامنا مع الكنائس الفلسطينية، واحتجاجا على عجز العالم عن وقف العدوان الإسرائيلى على غزة، وبناء على هذا القرار خلت الكنائس العربية التى تعتمد التقويم الغربى للميلاد المجيد فى 25 ديسمبر من روادها المعتادين، ومن أشجار الزينة، وغابت الاحتفالات عن الشوارع والميادين فى معظم العواصم العربية.
وكان رؤساء الطوائف المسيحية فى فلسطين قد سبقوا إلى اتخاذ قرار إلغاء الاحتفالات فى كنائس بيت لحم والقدس ورام الله وسائر مدن الضفة الغربية، ثم لحقت بها جميع الكنائس الفلسطينية، فى رسالة دعم واضحة لغزة، ولتأكيد مفهوم الوحدة الوطنية فى مواجهة الاحتلال.
فى كنيسة المهد بمدينة بيت لحم الفلسطينية، أقدم كنيسة على وجه الأرض، طغت مظاهر الحزن والألم على المكان الذى ولد فيه المسيح عليه السلام، واقتصر قداس منتصف الليل على الكهنة وبعض أشخاص من السكان المحليين، حملت صلاتهم دعوات بانتهاء الحرب وانتصار المقاومة فى غزة، كما بدت شوارع المدينة وساحاتها شبه فارغة، ومحلاتها مغلقة، ونصبت مكان شجرة الميلاد أعمال فنية تجسد معاناة السيد المسيح، الذى يحمل كفنه الأبيض على يديه وسط الأنقاض.
هذه الصورة الحدادية التى نقلها تقرير شبكة (بى بى سى) البريطانية، والتى لم ترها بيت لحم من قبل، تمثل طعنة نجلاء فى قلب المحتل الصهيونى، الذى طالما راهن على الشقاق الوطنى بين أبناء الشعب الفلسطينى، ولعب على وتر الفتنة الطائفية بين المسلمين والمسيحيين، وروج لأكذوبة أن المقاومة حركة إرهابية ضد اليهود والمسيحيين، لكن هذا الشعب الأصيل لديه دائما من عناصر المناعة والقوة ما يدحض به هذه الأكذوبة ومثيلاتها، ويثبت أنه شعب واحد، واع متحضر، متمسك بحريته ووحدته الوطنية ووحدة أراضيه.
ومعروف أن لكنيسة المهد فى بيت لحم مكانة خاصة لدى مسيحيي العالم من كل الطوائف، لذلك حرص كاهنها القس (عيسى ثلجية)على أن تكون كلمته بمناسبة الميلاد رسالة باسم الفلسطينيين جميعا، حيث قال: “رسالتنا لرؤساء العالم أن تتجه أنظارهم إلى مدينة بيت لحم، وإلى الظلم الذى يعيشه شعبنا من صعوبات وتحديات وحرب ودمار، سواء فى غزة أو فى مدن الضفة الغربية والمخيمات، نحن شعب صاحب قضية، نتطلع إلى الحرية والسلام والأمان، والمطلوب ليس وقف الحرب، وإنما إنهاء الاحتلال، وإنهاء معاناة شعبنا المشرد فى الداخل والخارج”.
كما حملت كلمة القس (منذر إسحاق) رئيس الكنيسة الإنجيلية اللوثرية فى بيت لحم رسالة مشابهة قال فيها: “يأتى الميلاد هذا العام والموت والدمار ينتشران فى أرضنا، ولو ولد المسيح اليوم لكان ميلاده تحت الأنقاض، المسيح هناك فى غزة تحت الأنقاض، وفى غرفة العمليات، ودعوتى للعالم كله أن يرى المسيح فى كل طفل يقتل وينتشل من تحت الركام، وفى كل طفل فى المستشفيات المدمرة وفى الحضانات، يصعب علينا الاحتفال هذا العام وأهلنا فى غزة يتعرضون لإبادة وتطهيرعرقي، لكننا سنتعافى ونقف مرة أخرى كالعادة، وساعتها لن نقبل اعتذار من شارك فى هذه الإبادة”.
أما رسالة (المطران حنا) فقد كانت موجهة بالأساس إلى العالم المسيحي، قال فيها: ” فى الوقت الذى تزينون باحاتكم وشوارعكم وعواصمكم أهل غزة يقتلون، وتنزل عليهم الصواريخ ويبادون، هنالك دماء وآلام وأحزان، تذكروا عندما تحتفلون، وعندما تأكلون وتشربون، أن هناك أبرياء فى غزة يموتون من الجوع، ومن قلة الماء، وواجب العالم المسيحي فى عيد الميلاد أن يلتفت إلى أرض الميلاد، فلسطين هي أرض الميلاد، وهنا مغارة الميلاد، ونحن نتمنى من كل كنائس العالم، ومن كل مسيحي العالم، أن يلتفتوا إلى أرضنا المقدسة، خاصة فى هذه الأوقات الحزينة والعصيبة”.
يقول تقرير الـ (بى بى سى) إن الكنائس الكاثوليكية فى مصر وسوريا ولبنان والأردن التزمت بقرار إلغاء احتفالات، ففى كاتدرائية السيدة العذراء مريم بالقاهرة رأس الأنبا (إبراهيم إسحق) بطريرك الأقباط الكاثوليك قداس الميلاد بحضور مطارنة الكنيسة الكاثوليكية من بعض المحافظات، حيث دعا في عظته إلى وقف الحرب في غزة، ووجه نداء لكل من يحمل أمانة المسؤولية في العالم إلى التحرك بعزم لإرساء أسس السلام والعدالة وحماية حياة الناس وحفظ كرامتهم.
وأعلنت الكنائس الرئيسية الثلاث في سوريا بيانا أكدت فيه إلغاء الاحتفالات والاستقبالات الرسمية تضامنا مع ضحايا القصف في غزة حتى تتوقف الحرب، واعتذار البطاركة عن عدم تقبل المعايدات والتهاني في عيد الميلاد، والاكتفاء بالصلوات، مرسلين البركة لكل أبنائهم.
وعاشت كنائس لبنان حالة عامة من الحزن، وامتنعت الأحياء المسيحية عن تزيين الشوارع والبيوت بشجرة عيد الميلاد التقليدية تضامنا مع الفلسطينيين، واحتجاجا على قصف الكنائس فى غزة وجنوب لبنان، ودعا البطريرك الماروني (بشارة بطرس) إلى أن يحدث الميلاد هذا العام انقلابا روحيا في حياة كل إنسان، فإن عالم اليوم، عالم الكبرياء والاستقواء، فى أمس الحاجة لهذا الانقلاب، وإلّا ظلّت المآسي على حالها من الظلم والحروب والاستبداد واللعب بمصير الأوطان والشعوب والثقافة والتاريخ.
وأعلن مجلس رؤساء الكنائس في الأردن الاكتفاء بالصلوات الكنسية احتراما لأرواح الشهداء فى فلسطين، وتضامنا مع غزة في وجه العدوان الإسرائيلى.