لا أخفيكم سرًا، كاد يتسلل إليَّ بعض القلق، وأنا أتابع الحلقات الأولى من مسلسل “الحشاشين”.. مبعث هذا القلق هو احتمالية ألا تصل الرسالة المرجوة من هذا العمل الدرامي العميق بسهولة إلى كل المشاهدين، وبخاصة أنه من الطبيعي ألا يكونوا جميعًا على قدر واحد من الوعي والثقافة، كما أن هذه الحلقات الأولى لم تكن قد تبيَّنت فيها بعد، وبوضوح كامل، ملامح شخصية “حسن الصباح”، التي يجسدها دراميًّا باقتدار الفنان المتميز كريم عبد العزيز.
وكي أكون أكثر دقة، خشيت بالفعل من أن يقع المشاهد البسيط في فخ التأثر بهذا المدعو حسن الصباح، فينبهر دون أن يدري ب “كراماته المزعومة”، فلا تصله مباشرة حقيقة كونه في الأصل صاحب فكر معوج، وفكرة شاذة، ومذهب ضال، وطموح جامح مُشبع ب”الأنا”.. ويتفاعل عن غير قصد – كما هو المعتاد دراميًا – مع “رحلة صعود البطل”، فيتوحد معه، وينخدع به، ولا يرى من الوهلة الأولى وبجلاء ما وراء مساحيق التقوى والصلاح المصطنعين، من انحراف وضلال حقيقيَّيْن.
بدون مواربة، بلغ قلقي ذروته في الحلقة الحادية عشرة حين انتصر الصباح ب “فئته القليلة” المفتونة بمذهبه على جيش “السلاجقة” الجرَّار، وهزم بالعقيدة الفاسدة التي زرعها في عقول مقاتليه، أقوى جيوش الأرض وقتها، والذي تحرك بجنوده وعتاده إلى قلعة “ألموت”، رافعًا راية الإسلام والحق، في حربه على هذا الفكر الخَرِب، الذي خرج بصاحبه من الدين، خروج السهم من الرمِيَّة.
لم تكد تبدأ الحلقة الثانية عشرة، حتى بدأ يزول معها كل هذا القلق عن آخره، إذ برع القائمون على العمل الدرامي في مسح كل المساحيق المغشوشة عن وجه الصباح “مُسَيلمة عصره وأوانه”، لتنكشف حقيقة أمره، دفعة واحدة، حتى لا يكون بين تلك الحقيقة والمُشاهد، مهما بلغت درجة بساطته مسافة تُذكر، فيراها رأي العين، ويبصرها بعقله، بمنتهى السهولة.. ها قد اتضح أصل وسبب التسمية “الحشاشين”.. أتباع “الصباح”، بمذهبه المظلم، الذي قصد أن تغرب خلف غيمته شمس الحقيقة ونور الحق.. صاحب الرداء والفكر الأسود معًا بدأ يوهم أصحابه حد اليقين الكاذب أنه “صاحب مفتاح الجنة”.. بالحشيش يصنع الحلم.. تحت تأثير المخدر يُدخلهم تلك الجنة التي اختلقها من وحي خياله، فيتلهف عليها كل منهم، ويبذل روحه في سبيلها، وهو في الحقيقة ينتحر في سبيل ضلالات وخرافات وطموحات هذا الذي أقنعه زورًا وبهتانًا أنه يملك مفتاحها.
ها قد وقع اختيار الصبَّاح على “الانتحاري”، الذي جهزه لاغتيال الوزير “نظام الملك”.. أدخلوه إلى الغرفة المخفية.. وضعوا في يده مسحوق الحشيش، أو “النبات السحري”، كما كان يسميه حسن.. قالوا له إنه من “تراب عتبات الجنة”.. طلبوا منه أن يستنشق بخوره.. بنصف وعي أدخلوه حديقة أعدوها على غرار تخيلهم وتخيله للجنة.. فيها رأى الفتيات اللاتي ارتدين ثيابهن البيضاء، حورًا عينًا، يتمايلن أمامه بميوعة، يبدين اشتياقهن له، وفرحهن برؤياه.. وهو تحت تأثير الحشيش أتوا به في النهاية إلى سيده الصباح.. هذه المرة استبدل ثوبه وعمامته الأسودين، بآخرين أبيضين، وعلى شفتيه ابتسامته.. أخبره أنه سيكون أول مَن ينتظره على باب الجنة.. تلقى بعدها الأمر باستهداف “نظام الملك”.. نفذ المهمة الموكلة إليه بالسمع والطاعة، وعن قناعة.. طعن الوزير، وأزهق روحه بخنجره، وهو يُمنِّي النفس بالعودة إلى الجنة.. السلطان ملك شاه هو الآخر تم اغتياله بعد وزيره مسمومًا.. انتهت الحلقة.. وانتهى الارتباك عند المشاهد.. ويقيني أنه بدأ يقرأ السطر الأول من رسالة الوعي، ويتهيأ تمامًا لاستكمال تفاصيلها في الحلقات القادمة.
بدا جليًا ليَ الآن أن القائمين على هذا العمل الدرامي الضخم قصدوا ألا تكون الرسالة مباشرة هكذا من البداية.. تركوا المشاهدين يتأثرون بالشخصية الغامضة.. تمامًا كما قد تأثر بعد سنين طوال من انتهاء أسطورة حسن الصباح، أولئك الذين خدعهم “حسن آخر”.. هذه المرة كان “البنا”.. الكذاب الجديد، والضال والمضلل الجديد، الذي راوده نفس حلم الزعامة، وروَّج لجماعته المزعومة، وتملكته الرغبة المحمومة في أن يصبح “الإمام”، الذي يملك هو الآخر “مفتاح الجنة”، يُسيل بها لعاب أتباعه، فيواصلون الائتمار بأمره، ويسيرون دائمًا خلفه، ووفق هواه!
نجاح مسلسل “الاختيار” العام الماضي كان مدويًّا، للدرجة التي كشف بها كل خفايا “الإخوان المتأسلمين” المعاصرين، الذين تاجروا بالدين في الدنيا، وسرقوا الحكم بغفلة الناس، وفي غفلة من الزمن.. هذه المرة كانت المواجهة الدرامية بالرجوع إلى التاريخ، عبر تجربة شبه مشابهة.. تأثر فيها البنا بالصباح.. استهوته مثله فكرة تطويع الدين للزعامة على الناس.. حسن “الأول”، في القرن الحادي عشر الميلادي استخدم الحشيش، “النبات السحري” – كما كان يسميه – وسحر به أصحابه، الذين آمنوا بأنه “صاحب مفتاح الجنة”.. وحسن “الثاني” أوائل القرن العشرين شغله أيضًا أن يكون “الإمام” وسط جماعته.. لم يستطع البنا استنساخ “تجربة الحشيش”.. انكشفت، وراح زمانها.. طريقته وكلماته وإرشاداته كانت “الأفيون” الذي وزعه على أصحابه.. أدمنوها وتناقلوها.. إلى الآن يتعاطونها فيما بينهم!
آن الأوان ألا نكتفي بتوعية الناس من خطر مثل هذه الجماعات الضالة.. الوقت حان للتوجه بالرسالة إلى قلب هذه الجماعات، والتصويب بدقة باتجاه عقول أفرادها والمتعاطفين معها.. لابد من نسف هذه الفكرة الفاسدة من جذورها.. قطع الطريق على كل مَن يتلاعب بالدين، وبالناس مستغلًا الدين.. هذا في تصوري هو الهدف من مسلسل “الحشاشين”.. وأظنه بدأ ينجح في الوصول إليه، حتى قبل أن يُكمل نصف حلقاته.
ختامًا، تحية التقدير واجبة ل “المتحدة للخدمات الإعلامية”.. مزيدًا من النجاح والتوفيق، عامًا بعد آخر، في رسالة التنوير ونشر الوعي.. ندرك أن المجهود الذي تبذلونه كبير.. لكن الغاية أكبر وتستحق.
حفظ الله مصر
mhamid.gom@gmail.com