فيلم مدهش يستعرض أحوال القاهرة والناس عام 1954
- جملة (الدواء فيه سم قاتل) صارت أيقونة سينمائية من قرن إلى آخر!
- كمال الشيخ قال لي : يوسف وهبي ممثل هادئ جدًا ومطيع
لا أظن أن هناك من لا يعرف الجملة الشهيرة (الدواء فيه سم قاتل) التي وردت في فيلم (حياة أو موت) لمخرجه كمال الشيخ والتي صارت أيقونة سينمائية بامتياز،
برغم أن الفيلم عرض قبل سبعين عامًا تقريبًا (6 ديسمبر 1954)! ذلك أن حبكة الفيلم وإيقاعه المشوق جعلا هذه العبارة التحذيرية ترسخ في وجدان المشاهدين بأجيالهم المتعاقبة وتجد صدى طيبًا لها من قرن إلى آخر!
في 2 يناير 2004 رحل كمال الشيخ، بعد أن أسعدنا بمجموعة من أفلامه المتميزة المترعة بالتشويق والإثارة،
فتعالوا نطل سريعًا على دور الشرطة وإخلاصها في زمن فيلمه الشهير (حياة أو موت)، وكذلك لنتأمل كيف كانت أحوال القاهرة بناسها وشوارعها وأسعارها وملابس رجالها ونسائها.
قطعة حية من القاهرة
إحدى أهم مميزات هذا الفيلم المدهش الذي أنتجته شركة لوتس فيلم – لصاحبتها آسيا داغر – تتجلى في أنه ينقل لنا صورة حية من قاهرة الخمسينيات،
حيث بلغ عدد المصريين آنذاك نحو 22 مليون نسمة تقريبًا وفقا لما ذكره جمال حمدان في موسوعته الملهمة (شخصية مصر… دراسة في عبقرية المكان).
يبدأ فيلم (حياة أو موت) بموعظة حول الزمن والحياة، كما كثير من أفلام تلك الأيام، يلقيها رجل ذو صوت رخيم، بينما بندول الساعة يتصدر المشهد بحركته الآلية ليهيئ الجمهور لأجواء التوتر المقبلة،
ثم تظهر الأسماء مكتوبة بخط نسخ بديع، موضحة أن القصة والإخراج لكمال الشيخ والسيناريو لعلي الزرقاني والمخرج نفسه، في حين كان الحوار الذكي من نصيب الزرقاني وتولى أحمد خورشيد مهمة التصوير.
ثم يواصل الرجل الحديث عن الحياة والزمن والمجهول في مدينة ضخمة مثل القاهرة حيث تعدادها اثنان مليون ونصف المليون إنسان
كما يؤكد صاحبنا، بينما الكاميرا تنقل لنا قطعة حية من القاهرة ونيلها وشوارعها وزحامها المتزايد بمناسبة اقتراب العيد الكبير!
التعاطف مع عماد حمدي
بنباهة لافتة يزرع كمال الشيخ في صدورنا شجرة تعاطف ضخمة مع بطل الفيلم عماد حمدي فور ظهوره، الذي يتزامن مع اختفاء صوت الرجل المعلق،
لنتابع وقائع حية في لقطات سريعة نعرف منها أن (عماد) بلا عمل.. بلا مال، غير قادر على صرف مكافأة نهاية خدمته نظرًا للروتين، كما أنه مريض كان في حاجة إلى عملية لكنه ارتاح مع دواء الطبيب كما جاء في حوار سريع مع زميله في العمل،
وهكذا يضطر إلى بيع ساعته ليبتاع فستاناً جديدًا لطفلته بمناسبة العيد (اشترى الساعة بتسعة جنيهات بالتقسيط قبل 6 أشهر وباعها بثلاثة جنيهات في مشهد فاتن مع صاحب المحل المُستغل، أما فستان الطفلة فثمنه جنيهان ونصف الجنيه في محل هانو)!
بذكاء شديد اختار كمال الشيخ عماد حمدي لأداء هذا الدور، دون غيره من نجوم ذلك الزمان، نظرًا لأن قسمات وجه عماد تكشف بيسر عن رجل منهك مريض،
لكنه معتد بنفسه يحترم كبرياءه مثل أغلب رجال الطبقة الوسطى من المصريين في تلك الحقبة المترعة بالكفاح والنضال، فيرفض بحزم (المعونة) التي عرضها مديره في العمل،
كما يأبى الإَقامة عند أهل زوجته خلال فترة العيد. (أفتح هذا القوس وأقترح عليك أن تقرأ الدراسة المدهشة التي كتبها الناقد الكبير الأستاذ كمال رمزي عن عماد حمدي بعنوان “فتى الشاشة المهزوم” ونشرها في كتابه البديع “نجوم السينما العربية”).
في شقته المتواضعة وبعد مشادة حادة مع زوجته (مديحة يسري) بسبب رفضه قضاء العيد في بيت أهلها، تغادر البيت غاضبةً،
ليصبح عماد حمدي وحيدًا مع ابنته، وتفاجئه نوبة مرض، لكن لا وجود للدواء، فتضطر الابنة إلى النزول لإحضار الدواء من الصيدلية، فيخطئ الصيدلي ويعطيها سمًا بدلا من الدواء،
وعندما اكتشف ذلك حاول اللحاق بالبنت، فأخفق، فلجأ إلى قائد الشرطة عسى أن يصل إلى منزل عماد حمدي قبل أن يتناول الدواء الذي به سم قاتل.
الشرطة كلها مع عماد
على الفور يأمر الحكمدار (قائد الشرطة/ يوسف وهبي) رجاله بالبحث عن الطفلة في شوارع القاهرة، وبعد جهد كبير تتوصل الشرطة إلى بيت عماد حمدي قبل أن يتجرع الدواء المسموم بلحظة.
أنت تعرف وقائع الفيلم الذي يعرض كثيرًا في الفضائيات، لكني أرجوك أن تنتبه إلى التفاصيل الصغيرة الذكية التي ينثرها المخرج بحكنة في المشاهد المختلفة،
مثل خروف العيد الذي نسمع صوته فقط في أول الفيلم ولا نراه إلا حين تعود مديحة إلى البيت مهرولة لإنقاذ زوجها في نهاية الفيلم،
أو ثمن تذكرة الترام، أو تعاون الناس مع الطفلة، أو زحام ميدان العتبة، أو ملابس مديحة وأمها والنساء الغاديات في الشوارع، أو قطع البرنامج الموسيقي لإذاعة بيان حكمدار القاهرة،
وكيف تعامل معه بعض الناس باستخفاف إلى آخره.، لكن عندي ملاحظة أود تحريرها، وهي أن الفيلم لا يحتفي بالشرطة المصرية فحسب، بل يحتفل بالنظام الجديد الذي أسسته ثورة يوليو،
ولا تنس المعركة المجيدة للشرطة ضد قوات الاحتلال الإنجليزي عام 1952 في الإسماعيلية، فقد كانت آثارها النبيلة في أذهان الناس وقت عرض الفيلم.
إن (حياة أو موت) الذي فيلم بديع تدور أحداثه في أقل من أربع ساعات، وسط أجواء الشوارع وصخبها، وقد لعبت الموسيقى التصويرية دورًا بارزاً في تأجيج حالة التوتر التي تنتاب المشاهد حتى اللحظات الأخيرة.
وإذا كان كمال الشيخ قد تأثر بسينما المخرج الأمريكي الفريد هيتشكوك (1899/ 1980) التي تنهض على فكرتي التشويق والإثارة، فإنه أنجز لنا أفلامًا ذات طابع مصري خالص يؤكد موهبته المتفردة وحساسيته الفائقة،
ولعل (حياة أو موت) هو أبرز نماذج أفلامه المصرية التي تحتفي بالشرطة ورجالها الأذكياء المخلصين.
أذكر أنني سألت المخرج كمال الشيخ (مولود في 5 فبراير 1919) في حوار أجريته معه في بيته بعمارة الإيموبيليا في منتصف تسعينيات القرن الماضي ونشرته في جريدة البيان الإماراتية وقتها..
سألته: كيف كنت توجّه يوسف وهبي، وهو من هو، بينما كنت شابًا لم يتجاوز عمره 35 عامًا فقط حينئذ؟
فابتسم المخرج الكبير وقال لي:
في البداية قمت بتصويره وهو في وضعه الطبيعي.. أي عندما كان جالسًا في سيارة الحكمدار، ثم وهو يسير في ممرات مديرية الأمن،
وهذه الأمور لا تحتاج إلى توجيه أو إرشاد، بعد ذلك بدأت التعود على التعامل معه، فوجدته ممثلاً مطيعًا هادئاً.
أجل.. يوسف وهبي كان ممثلاً هادئاً، لكن فيلم (حياة أو موت) لم يكن هادئاً بالمرة!