الثانية صباحا بتوقيت الغياب ،جلست على حافة سريرها تحاول أن تفهم سر الجفوة المفاجئة بينها وبين النوم ،هاجمتها الأفكار ، وأحتل صوته رأسها وهو يحدثها من خلف الباب، قاطعة أربعمائة كيلومتر في لحظة، لتستقر أمامه في صالة المنزل.
لم تكن تسترق السمع، لكن صوته الذي تردد صداه في صدرها و أستقر في قلبها كطعنة وصلها من خلف أربعة جدران وباب مغلق وممر طويل ،أشعلت سيجارة ورأته جالسا أمامها في كرسيه الأبيض بالغرفة الضيقة التي شهدت لقاءاتهما الأخيرة، تعلو وجهه ابتسامة ويسألها بفضول : لماذا تحبينني.. ؟
كانت تسمعه وهي صامتة، تتابعه من خلف غيمة الدخان التي تفصلهما ،شعرت بحاجة شديدة لضمه ،لغفوة يستعيد فيها قلبها المضطرب إيقاعه، ألقت نفسها على صدره راجية أن يتوقف الوقت هنا فلا تضطر للعودة ، بحثت عن شيء يخلصها من مخالب الفكر والأرق التي مزقتها ،تناولت حبة من منتجات الزوبيكلون وتمددت فوق السرير كجثة تائهة في المصباح المتدلي فوقها من سقف الغرفة ، تتصبب عرقا ،وضجيج أنفاسها يذكرها بأنين فتاة وحيدة في غرفة بمشفى حدودي، تفصلها عنه سبع سنوات عجاف تقتات فيهما بقايا حب، وآلاف الأميال ومئات التعرجات الأرضية غارقة في دمائها.
أعماها الضوء بالغرفة المكتظة بالخيالات الزرقاء والكمامات البيضاء والمشارط والمقصات التي تبعثرت بانتظام جانبها، ورائحة الدماء والمخدر تثير غثيانها وتنبعث في ثغرها طعما مرا، وطبيب تخدير انتصب فوق رأسها كملاك الموت يقبل جبينها ويهمس في إذنها : استسلمي
تنزوي خلف نافذة تراقب الطرقات المهجورة وقطرات المطر التي رحلت مهاجرة كل تلك المسافة لتموت صريعة على الأرصفة أسفل إطارات العربات ، لحن حزين معلق في ذاكرتها منذ طفولتها الأولى يتهادى بخفّة ، فترى نفسها في يد القدر مخمورة بحفلة راقصة ، تتناقلها الأيدي كالدمية الأخيرة بمحل الألعاب، تصارع عليها حفنة من الصغار حتى سقطت محطمة على الأرض فلم يبكها أحد منهم.. انفضوا جميعا من حولها، تركوها مهشمة ومطروحة على الأرض، وتفرقوا باحثين عن ألعاب جديدة بالمتجر الكبير..