عندما رفع نتنياهو سبابته متوعدا باجتياح رفح، كان الغرور يصور له أن هذه هي الخطوة الأخيرة والحاسمة التي ستحقق له مالم يتحقق في سبعة أشهر، وأنها ستكون نزهة خاطفة، يتمكن فيها الجيش من سحق ما تبقى من المقاومة، وإحراز النصر المطلق، والعودة بالرهائن دون مقابل، ودون اتفاق، لكن ما حدث في رفح على مدى أسبوعين قلب كل الموازين، وأربك كل الحسابات، وكسر غرور نتنياهو وحلفائه.
كان رهانهم أن المقاومة قد أنهكت، وفقدت الكثير من رجالها وسلاحها وعتادها في معارك شمال ووسط غزة، وأن الحصار الحديدي المفروض عليها من كل الجبهات لايسمح لها بالحصول على رصاصة واحدة أو كسرة خبز، وأن موافقتها على عرض الوسطاء يعني أنها تتلهف لإنهاء الحرب، ومن ثم ستكون ضربة رفح هي القاضية، فإذا بالمقاومة تظهر في رفح قوية شامخة، قادرة على نصب الفخاخ للدبابات والآليات، واصطياد الضباط والجنود، كأنها في أول يوم للحرب، ما جعل نتنياهو يعترف على الملأ، وبلا أدنى خجل، بأن إسرائيل تتكبد ثمنا باهظا ومؤلما، وتخوض حرب وجود، والجيش الإسرائيلي يواجه تحديات لم يواجهها أي جيش حديث.
ما مغزى هذه التحولات؟ وما سر هذه المعجزات؟
لقد انتظر العدو استسلام المقاومة في رفح، وأشفق الصديق أن تنكسر شوكتها وتسقط رايتها، بعد التضحيات الجسام التى تحملتها غزة الصابرة المحتسبة، فإذا برفح تتحول إلى قلعة للمقاومة، وتنضم إلى الجبهات المشتعلة، وتكبد جيش الاحتلال خسائر لم تخطر على باله في الأرواح والمعدات، وتجبره على الاعتراف بصعوبة المواجهة، وكان من نتيجة ذلك أن انفجرت إسرائيل من الداخل؛ استقالات وصراعات واتهامات متبادلة، وتصاعدت الانتقادات العلنية ضد نتنياهو ووزير دفاعه يوآف جالانت بسبب عجزهما عن تحقيق ما أعلناه من أهداف الحرب، وفي مقدمتها تفكيك حماس وإطلاق سراح المحتجزين.
ثم تطورت الأمور أكثر وأكثر، وخرج الخلاف بين رئيس الحكومة والمؤسسات العسكرية والاستخباراتية والأمنية من الغرف المغلقة إلى العلن، وتحدثت تقارير إعلامية إسرائيلية عن ضغوط قادة الجيش والأجهزة الأمنية على نتنياهو، واعتراضهم على خطته لإخضاع غزة إلى حكم عسكري إسرائيلي مباشر، وذلك خوفا من تعرض الجيش لحرب استنزاف مؤلمة طويلة، تتآكل فيها إنجازاته العسكرية.
ولم يجد جالانت وزير الدفاع بدا من الخروج عن صمته، رغم أنه ينتمى إلى حزب الليكود الذي يتزعمه نتنياهو، فأعلن رفضه القاطع لتوريط الجيش في حكم عسكري لغزة، مطالبا بالبحث عن بديل لحماس في القطاع، لكن نتنياهو سارع بإعلان تصميمه على عدم ترك غزة لأية سلطة فلسطينية، وأنه لن يستبدل (فتحستان) بـ (حماسستان)، ثم بعد يومين من هذه المواجهة العلنية والضغوط الهائلة يرضخ نتنياهو، ويقول إنه منفتح على الأفكار التى تطرح تسليم السلطة المدنية في غزة لكيانات محلية غير تابعة لحماس.
وفي هذا اللحظات الحرجة يدخل وزير الخارجية الأمريكي (الصهيوني) أنتوني بلينكن على الخط، ليؤكد من جديد التزام بلاده بأمن وحماية إسرائيل، ويوجه تقريعا مبطنا لنتنياهو وحكومته، مشددا على الحاجة إلى “زيادة الضغط العسكري على حماس لهزيمتها قبل التوجه إلى المسار السياسي”.
وينشر رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت مقالا في صحيفة (ها آرتس) يقول فيه إن الحرب على غزة انتهت فعليا قبل ثلاثة أشهر، ولا يوجد سبب للادعاء باستمرارها، ومن ثم فلا بديل عن التوصل إلى صفقة لاستعادة المحتجزين، وانسحاب الجيش من القطاع، والاعتراف بدولة فلسطينية، وإلا فإن إسرائيل ستغامر بفقدان تعاطف المجتمع الدولي والحلفاء الأمريكيين والأوروبيين، الذين سيدفعهم عناد نتنياهو إلى تأييد قرار الجمعية العامة بشأن دولة فلسطين، أو على الأقل الامتناع عن التصويت عليه في مجلس الأمن كى يمر ويصبح واقعا.
ويضيف أولمرت أن نتنياهو يحبط عمدا أية فرصة للتوصل إلى صفقة تفرج عن المحتجزين بذرائع شخصية من أجل الاحتفاظ بالسلطة، وأن حكومته عبارة عن عصابة هدفها تطهير الضفة الغربية من الفلسطينيين، وتفريغ المسجد الأقصى من المسلمين، وغزة مجرد خطوة في مخططها لضم جميع الأراضي الفلسطينية.
وبينما يشكك المتخاذلون العرب في المقاومة، ويطعنونها في شرفها الوطني، ويبشرونها بهزيمة منكرة في رفح، ويكتب أحدهم (رفح ورقة حماس الأخيرة)، ينشر الصحفي الإسرائيلى آلون مزراحي مقالا يقول فيه: إن أكثر الأمور وضوحا في هذه اللحظة التاريخية هو أن حماس، وهي حركة فلسطينية صغيرة ، لم تهزم إسرائيل فحسب، بل الغرب برمته، لقد انتصرت في ساحة القتال، وانتصرت في معركة كسب الرأي العام، وتمكنت من الاستفادة بشكل مذهل من قراءتها للعقلية الإسرائيلية، واستعملت كل ما لديها من كفاءة عالية، لقد كسبت العقول والقلوب للقضية الفلسطينية في جميع أنحاء العالم، ولم يتم تدميرها أو تفكيكها، واحتفظت بالأسرى طيلة سبعة أشهر، ولم تستسلم لأي ضغوط ، لقد غيرت حماس التاريخ للأبد.
إن أقصى ما يستطيعه نتنياهو الآن هو تدمير ما هو مدمر بالفعل في غزة، وارتكاب المزيد من المجازر بحق المدنيين الأبرياء، كما يفعل الجبناء، لكنه لن يكسر إرادة المقاومة، وسيفاجأ بين الحين والآخر ببيان من الرجل الملثم يؤكد أن المقاومة مستمرة، وجاهزة لحرب استنزاف طويلة المدى، وينام ويصحو على اعترافات من كل جانب في إسرائيل بالهزيمة، واستغاثات من أهالى المحتجزين والمجندين لإنهاء الحرب، ومظاهرات فى أوروبا وأمريكا ضد جرائمه في غزة.
لم يعد أحد يصدق أكذوبة أن المقاومة إرهاب، وصور رجالها تنشر في الصحف العالمية على أنهم أبطال، يواجهون الدبابات بأسلحتهم الخفيفة، عراة الصدور حفاة الأقدام، يدافعون عن أرضهم وبيوتهم، ولا ينتظرون الرواتب الآتية من أمريكا آخر الشهر.