دعونا ننظر إلى سوق العمل المحلي والدولي الآن، ونستكشف ما يطلبه من تفردٍ مهاريٍ مرتبطٍ بمهنٍ تحتاج أن نصقلها بصورةٍ مستدامةٍ بجديد المعارف وما يرتبط بها من خبراتٍ متجددةٍ تفتح مجالات للابتكار في المجالات كلها، وعلى أثرها نرصد ثورةً غير مسبوقةٍ في المجالات الصناعية، والزراعية، والتجارية، والإدارية، والسياحية، وهذا يدفع حتمًا بعجلة الاقتصاد للأمام، ويؤدي بعزيمة النهضة لأن تبلغ العلا والمراد.
ولدينا تعليمٌ فني متنوع المجالات متعدد الغايات تقوم فلسفته الأصيلة على اكساب المورد البشري مجموعة من المهارات المشفوعة بفيض المعلومات والمعارف التي تشكل الخبرة والوجدان تجاه مهنة بعينها؛ فتجعل الفرد قادر على العطاء وإنجاز مهام نوعية والخروج بمنتج نفتخر أنه صناعةٌ مصريةٌ أو منتجٌ وطني، أو مخترعٌ محليًا، يزيد في نفوسنا عطر محبة الجدران التي تعلمنا فيها واكتسبنا السلوك الحميد الذي خلق في نفوسنا المواطنة الصالحة وما يرتبط بها من قيم نبيلة راقية المعاني.
ما أحوج سوقنا المحلي لمن يمتلك المهارة المتفردة، والأداء الماهر؛ فيصبه التقدير المادي والمعنوي على السواء، وما أحوج السوق العالمي المتعطش لدعمٍ بشري مبتكر في مجاله؛ فندرك أن التنمية بصورها المتباينة رهن مواصفات يدٍ عاملةٍ قادرةٍ على إحداث التطوير؛ لذا أكدت سياسات الدول التي ترغب في لحاق سباق التقدم والنهضة أن توفر نمطًا تعليميًا فنيًا يفي بهذا الغرض، ومن ثم فقد نص الدستور المصري على تقديم الدعم اللازم لهذا النمط من التعليم؛ حيث الالتزام بتطويره وتقديم الدعم اللوجستي الذي يجعله داعمًا للتنمية في بعديها البشري والمادي.
نحتاج إلى تعليم فني يخرج لنا مهرةً في المجالات المهنية المختلفة، كما نحتاج تغييرًا في الوعي تجاه هذا النمط من التعليم؛ حيث التأثير المباشر الذي يبهر كافة فئات المجتمع من خلال ما يقدمونه من خدمات ضرورية للمجتمع، ومن ثم يستطيع المتعلم المثقف الذي يمتلك الخبرة العملية أن يغير من اتجاهات المجتمع إزاء التعليم الفني والحاجة الماسة إليه، ومستقبله الباهر الذي ينتظر أصحاب الكفاءات من خريجيه.
ومن هنا يتوجب أن نعي أهمية التعليم الفني الذي يكسب المنتسب بسلمه المهارات المهنية المرتبطة بشكلٍ وثيقٍ بالمجال الصناعي، أو الزراعي، أو التجاري، وهذا يعني إعداده وفق متطلبات العمل بهذه المهن المتمثلة في العديد من التخصصات، والتي قد تشمل النجارة، أو الكهرباء، أو السباكة، أو النحت، أو التصوير، أو الزراعة، وغير ذلك من المهن، وهناك مجالاتٌ عامةٌ يعتني بها التعليم الفني منها الرسم والموسيقى؛ بالإضافة إلى أن مواصلة الدراسة في هذا النمط من التعليم متاحة؛ حيث يمكن للفرد الالتحاق بالدراسات المتخصصة أو الكليات النوعية سواءً ارتبطت بالفنون أو دراستها الأكاديمية المتخصصة.
إننا نتطلع إلى تعليم فني يسهم بصورةٍ حقيقيةٍ في تنمية المهارات الفردية لدى منتسبيه؛ فيهتم فعليًا بالكشف عما لديهم من مواهب، ويركز من خلال استراتيجيات وطرائق تعليمية على تعظيم تلك المواهب؛ ليجد الفرد أن خبرته تتواكب مع متطلبات سوق العمل الحالية والمستقبلية، بما يدفعه لمزيدٍ من التعلم والابتكار في مجال تخصصه، وهذا بالأحرى يتطلب تعزيزًا جماعيًا من قبل المعلم وإدارة المؤسسة التعليمية والوزارة المعنية، وأيضًا تشجيعًا ودعمًا من قبل الأسرة.
ولزامًا نحتاج مزيدًا من التطوير لمؤسسات التعليم الفني يشمل الورش والمعامل من حيث البنية التحتية ودعمها بأحدث الأجهزة التقنية؛ بالإضافة إلى إتاحة التدريب المباشر داخل المصانع بمساهمةٍ بناءةٍ من أصحاب العمل، وذلك بعد صياغة مناهجٍ تعليميةٍ تواكب متطلبات سوق العمل وتفي باحتياجاته، وهذا ما جعل الطلاب راغبين في الالتحاق بهذا النمط التعليمي الذي يكسبهم الخبرات الوظيفية التي تدعم النظرية والتطبيق بصورةٍ متلازمة.
ويرتبط بالتطوير سالف الذكر أن تتوافر مناهج يقدم محتواها وأنشطتها خبراتٍ عملية وظيفية مصبوغة بالطابع التقني لتنمو مهارة فنية عالية المستوى يتعطش لها سوق العمل الذي يغيب عنه المهرة في مجالات التخصص النوعية المتعددة، وهذا من شأنه يزيد من ارتقاء المهن وتطورها بصورة تحدث تقدمًا غير مسبوق في مجالات التنمية الاقتصادية بصورها المختلفة.
وفي خضم التحديات ورغم العديد من الأزمات تحاول الدولة تطوير التعليم الفني كي يصبح أداةً رئيسةً تسرع عجلة التنمية الاقتصادية في البلاد، وتربطه ربطًا حقيقيًا بسوق العمل بما يرتبط بالأساليب التقنية المتقدمة في مزاولة المهن والحرف؛ كي يمتلك الخريج المهارات التي تسوق إليه فرص العمل بعد انتهائه من دراسته مباشرة، بل وأصبح سوق العمل الدولي طالبًا لتلك المهارات والكفاءات بشكلٍ متزايدٍ؛ نظرًا لأن التنمية الاقتصادية باتت من أولويات وطننا الحبيب.
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس بكلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر