تأثَّر قطاع الطاقة العالمي بشكل كبير بتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية مثله في ذلك مثل باقي القطاعات الاقتصادية العالمية، ونظراً لمحورية قطاع الطاقة وتأثيره بشكل بالغ على جميع الأنشطة والقطاعات الاقتصادية المختلفة، فقد مثلت التغيرات التي حدثت بمختلف أسواقه عامل الحسم الذي قاد الاقتصاد العالمي لأزمة تضخُّم غير مسبوقة.
ففي سوق النفط، ونتيجة لحظر الاتحاد الأوروبي النفط الروسي مع تصاعد الطلب العالمي بعد التعافي الناتج عن إزالة القيود الخاصة بمواجهة فيروس كورونا في الصين وغيرها من دول العالم، تصاعدت الأسعار بشكل غير مسبوق أدى لمطالبة الولايات المتحدة تحالف “أوبك بلس” برفع حجم الإنتاج، وهو القرار الذي اتخذه التحالف في بداية يونيو 2022، إلا أن حجم الزيادة في الإنتاج لم يكبح جماح ارتفاع الأسعار بفعل ظهور عدد من العوامل الأخرى الأكثر تأثيراً، ومنها الجدل حول كمية الإنتاج الروسي بعد الحظر المفروض عليها، ومَن باستطاعته تعويض الإمدادات الروسية في حال تأثرت بشكل بالغ بالعقوبات؟
على مستوى أسواق الغاز والفحم، ساد اتجاه أساسي وهو ارتفاع الأسعار مع ضعف الإمدادات مقارنة بالطلب، خاصةً الطلب الأوروبي لتعويض الإمدادات الروسية. وعلى مستوى أسواق الطاقة الجديدة والمتجددة، ثارت حالة من الجدل حول فاعلية الاستثمارات في هذا القطاع، ومدى قدرته على تعويض نقص إمدادات الطاقة ولو على المدى المتوسط.
من هذ المنطلق، ترصد هذه الورقة أهم الاتجاهات الحالية في قطاع الطاقة العالمي، مُستعرضةً أهم ملامح أسواق النفط والغاز والفحم والطاقة الجديدة والمتجددة في ظل التطورات العالمية الجيوسياسية والاقتصادية الراهنة، تمهيداً لتقديم أهم السيناريوهات المتوقعة لمستقبل قطاع الطاقة العالمي.
الاتجاهات العامة الراهنة لقطاع الطاقة العالمي
ويتمثَّل أهمها في الآتي:
نهاية التجارة الحرة للطاقة، حيث بدأت حقبة جديدة في النفط والغاز، مدفوعة بالعقوبات الغربية ضد روسيا، والتي تمنح الجغرافيا السياسية ميزة على قوى السوق، وتتأثر المنافسات الجيوسياسية بقدر العرض والطلب
ارتفاع قياسي في أسعار منتجات الطاقة النهائية بالمقارنة بالمنتجات الخام؛ فالبنزين وصل في الولايات المتحدة لأعلى مستوى له، فيما ارتفع سعر الغاز الطبيعي والفحم لمستويات قياسية. وارتفعت أسعار النفط مجدداً، بعد قيام المملكة العربية السعودية برفع أسعار بيع نفطها الخام لشهر يوليو للمشترين الآسيويين إلى مستويات أعلى من المتوقع، وهو ما أعطى إشارات من جانب أكبر منتج للخام إلى الثقة في الطلب العالمي على النفط. وسجَّل سعر النفط ارتفاعاً بنسبة 60% تقريباً منذ بداية عام 2022، ويبدو حالياً أن ارتفاع الأسعار بصدد الاستمرار مع اتساع عجز العرض.
يشهد سوق النفط حالياً ارتفاعاً كبيراً للطلب مقارنة بالعرض نتيجة تعافي الاقتصاديات بعد رفع إجراءات مواجهة جائحة كورونا وبدء مرحلة التعافي في الصين، ونقص الإمدادات بسبب تداعيات الحرب وأزمات الشحن والتوريد المرتبطة بها، وبدء موسم القيادة الصيفي في الولايات المتحدة، ومن المتوقع أن ينخفض العرض نتيجة تأثر إنتاج روسيا بالعقوبات بحوالي من 2-3 مليون برميل يومياً وليس من السهل تعويضه.
بدء استراتيجية التراجع عن وقف دعم منتجات الطاقة التقليدية والوقود الأحفوري وخطط تخفيض الانبعاثات؛ فالدول وجدت نفسها قد تسرعت في هذا التخلي بوقف الاستثمارات في قطاع الطاقة التقليدية، وهو ما ظهر خلال الأزمة الحالية التي لم تُفلح منتجات الطاقة الجديدة بعد في سد الاحتياجات السريعة التي تتطلبها الدول
مركزية النفط في اقتصاديات الدول النفطية، وذلك بالرغم من خطط الكثير من هذه الدول لتنويع مصادر اقتصادها، مثل السعودية حيث توقع صندوق النقد الدولي أن يسهم قطاع النفط بنسبة 90% من نمو الاقتصاد السعودي خلال العام الحالي.
هناك حالياً ثلاثة أطراف أساسية تؤثر في قطاع الطاقة، وهي الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية التي استخدمت القوة الاقتصادية والشرائية سلاحاً سياسياً، والصين والدول الناشئة الكبيرة مثل الهند وتركيا وفيتنام التي رفضت الضغط الغربي وواصلت التعامل مع روسيا، والسعودية ودول الشرق الأوسط الأخرى المنتجة للنفط التي تسعى إلى الحفاظ على الحياد، وقد تكون قادرة على الاستحواذ على حصص أكبر في السوق.
فبالرغم من التحديات الكبيرة التي واجهتها الحكومة المصرية في قطاع الطاقة خلال الفترة الماضية، استطاعت اتخاذ العديد من الإجراءات والسياسات، والتي تهدف إلى الإصلاح لإطلاق عملية التحول في الطاقة، والعمل على فتح أسواق وآفاق جديدة للاستثمارات في مختلف مجالات الطاقة، وظهر هذا التطلع من خلال توقيع مذكرة تفاهم بين مصر والاتحاد الأوروبي، والتي تضمنت العمل المشترك بين الجانبين في مجالات الطاقة بشقيه من البترول والغاز والكهرباء، فضلا عن السعي إلى تطوير مجال الطاقة المتجددة.
وتهدف رؤية مصر ٢٠٣٠ إلى بناء اقتصاد تنافسي ومتوازن في إطار التنمية المستدامة، وتلعب الطاقة المتجددة دوراً محورياً في ذلك، وتسعى استراتيجية الطاقة المتكاملة والمستدامة حتى عام ٢٠٣٥ إلى تنويع مصادر الطاقة وضمان أمن الطاقة واستمراره، كما تحدد الشروط المهمة والضرورية لدعم نمو مصادر الطاقة المتجددة بمشاركة جميع قطاعات الدولة. علاوة على ذلك، تعكس الاستراتيجية طموح مصر بأن تصبح نقطة ارتكاز محوري على خريطة الطاقة العالمية تصل بين إفريقيا وآسيا وأوروبا عبر تعزيز ترابط شبكات الكهرباء والطاقة في دول المنطقة وخارجها، فمصر تمتلك العديد من موارد الطاقة غير المستغلة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، والتي من المفترض أن تساهم بنسبة تتعدى ٤٠٪ من إجمالي قدرة الطاقة بحلول عام ٢٠٣٥.
وعند الحديث عن تحول الطاقة إلى الطاقة المتجددة، هناك سؤال يتبادر إلى الأذهان دائماً: كيف يبدو لنا مستقبل الطاقة الخضراء والنظيفة، بالنسبة لمعظم الناس؟ تستحضر الفكرة صور حقول التوربينات الرياحية ومزارع الألواح الشمسية الهائلة، لكن رغم أن طاقة الرياح والطاقة الشمسية هى أشكال متنوعة وممتازة وفعالة بشكل كبير وتكلفة معقولة لإنتاج الطاقة النظيفة مقارنة بالطاقة غير المتجددة، إلا أن لها ضوابط محددة، والمحدد الأول والأكثر انتشاراً للرياح والطاقة الشمسية هو أن هذه الأنماط من إنتاج الطاقة متغيرة، بمعنى أنها لا تستطيع إنتاج كميات ثابتة ومحددة من الطاقة طوال الوقت، حيث يعتمد كل من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح على أشكال الطقس والتغيرات المناخية،
والتي لم يجد العالم طريقة للتحكم فيها حتى الآن، وهذا يعني أنه على عكس الوقود الأحفوري التقليدي، تتدفق الطاقة إلى الشبكة من الرياح والطاقة الشمسية، ثم تتوقف ويبدأ بشكل لا يمكن التنبؤ به دائماً ، بينما يحتاج العالم إلى الطاقة بشكل مستقر وبصفة مستمرة نوعا ما، بغض النظر عن شروق الشمس أو هبوب الرياح. وعن أبرز مشروعات الطاقة المتجددة التي أقيمت في مصر، مجمع ببنان الذي يعد أكبر مجمع للطاقة الشمسية في العالم، وتبلغ تكلفته نحو ثلاثة مليارات دولار، ويقع بمحافظة أسوان،
هذا المشروع الضخم سيعمل على توفير الآلاف من فرص العمل، الأمر الذي ساهم بدوره أيضا في خفض نسبة البطالة. وقد أعلن البنك الدولي فوز مشروع الطاقة الشمسية في بنبان بمحافظة أسوان أنه أفضل مشروعات البنك تميزًا على مستوى العالم، كما أشادت صحيفة لوس أنجلوس تايمز الأمريكية، بهذا المشروع قائلة إن هذا المشروع سيؤدى إلى إحداث ثورة في إمدادات الطاقة، مضيفة أنه سوف يضع مصر وحدها على خريطة الطاقة النظيفة.
دكتور القانون العام والاقتصاد الدولي
ومدير مركز المصريين للدراسات بمصر ومحكم دولي معتمد بمركز جنيف للتحكيم الدولي التجاري
وعضو ومحاضر بالمعهد العربي الأوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا