لكل شعب قصة حب يعتز بها ويتناولها في حواراته ولها دائما النصيب الأوفر في الضمير والتراث ..إنها قناديل مضيئة للحياة لأن الحب يظل هو الأساس ..
وهناك قصص أخرى قد تكون محدودة الشهرة لكنها في منتهى الأهمية لأطرافها منذ المنبع وحتى الأحفاد.
قصة حدث فيها الحب التلقائي بشكل مبهر ومضىء وفي نفس الوقت ينتظر لبعض الوقت حتى ينال الاعتراف به عندما تظهر تأثيراته الإيجابية على أفراد الأسرة ودائرة الأقرباء..
أتناول اليوم قصص الحب التي جمعت أباءنا وأمهاتنا وصنعوها بكل نبل وعزيمة رغم عدم سابق المعرفة ولكنها البذرة الطيبة عندما تصبح شجرة مثمرة
** أعلم كم تسعد قصص الحب.. أبطالها وأصحابها.. كم هى موضع الاهتمام والرعاية بين من يطلعون عليها.. والوجد الذى ينتقل إلى المتلقى من الراوي.. ويصل إلى حالة من التقمص النادر.. ليحل هو أو هى محل البطل والبطلة.. وحتى التاريخ المفترض فيه الحياد وتسجيل الواقعة كما حصلت.. لا يستطيع إلا التعاطف مع الحبيب والحبيبة.. يناصرهم أمام أعداء الحب.. العوازل الذين لا تبدو قلوبهم إلا مع وأد المشاعر.. وانفصال الوليف.. بالوليفة.. هنا نجد التاريخ يوجه إليهم الاتهامات.. ويصب عليهم اللعنات.. ويحملهم مسئولية ذبح الحب بسكين بارد.. ولا يتقبل لهم دفاعا تتوالى الأزمان.. وتتواصل الأجيال.. يطل أعداء الحب فى صحراء قاحلة بين الحيات والثعابين والغربان.. حتى الحكيم العجوز التاريخ.. يجد نفسه فى موقف الدفاع عن المحبين.. شاهدا على كل ما بذلوه من تضحيات.. وما تطلعوا إليه من أحلام.. لذلك تظل قصص الحب قناديل مضيئة.. على الطريق مادامت الحياة.
** القصة هذه المرة.. إما نتاج لها.. وجزء منها.. وشاهد على حدوثها.. استشفت على مدى الأيام رحيقها.. وتابعت غرس بذورها.. ثم ترعرع نباتها فى الأرض الطيبة.. فى منزل بسيط.. جمع القدر فى الضاحية الهادئة.. بين حواء القادمة من مدرسة المعلمات فى المنصورة.. فى زيارة صيف لأبيها الشيخ الذى تفرغ للعمل فى التعليم مهنة الأنبياء.. وتلميذه اليتيم الذى تركه والده يحبو فى سنواته الأولى ويطالب بحقه فى العلم.. من عائلة بسيطة.. تعتقد ان مسئوليتها فى الرعاية.. تنحصر فى المسكن والمأكل والمأوى فقط.. أما المستقبل.. ففى الورش والمقاهى والنشاطات الحرفية.. الفرصة متوفرة لتعلم صنعة.. ومصدر رزق.. لا يجادل أحدا فى محاولة تخيفه.
** شكا التلميذ للشيخ ظروفه القاسية.. وكيف أن خاله رفض كفالته أمام دبلوم مدرسة تحسين الخطوط.. فتعلم الخط العربى بأنواعه.. ديواني.. نسخ.. فارسي.. كوفي.. رقعة.. الخ.. لكن بدون شهادة يخطو بها نحو الوظيفة والمستقبل.. أرشده الشيخ إلى اتمام حفظ القرآن وتلاوته بصوته الجميل.. ليكون مساعدا له فى تعليم الصغار الصلاة والحفظ تحت سقف المعهد الأزهرى الأهلي.. الذى تولى الشيخ مسئوليته.. ومع علامات النبوغ وجلسات المساندة.. راق التلميذ فى عين الشيخ الجليل.. جاهد النفس على اكمال نصف دينه.. وكانت هى ابنة المنصورة «الفتاة الجميلة».. حافظة القرآن أيضا.
** حدث النصيب وتزوجا بالطريقة التقليدية.. كان عش الزوجية شقة صغيرة فوق سطح منزل الحماة.. بدأت قصة الحب.. قريبة من السماء.. تحت أصوات غارات طائرات العدو ومدافع الحلفاء.. وسقطت بجوار الابن الأول.. شظية نجا منها بأعجوبة.. وعندما كبر قليلا.. عرف حوار الأصدقاء مع أبيه.. حكا له كيف أحبها عندما شاهدها بحضور الاب الشيخ.. ليتأكد من الحذاء هديته الأولى لها ووصف شجرة الحب.. بالصبار.. نبات الصحراء محتمل الجفاف يؤمن أحد حياتهما معا.. كانت سعيدة بنبع أمل لم يكف عن الجريان.. رغم صعوبات فى العيشة وصلت إلى الايقاف عن العمل لحوالى العام.. والبيت مفتوح.. بالستر والرضا.. تدابير الله سبحانه وتعالي.. وصاحب منزل طيب.. حمت الأسرة من الهزيمة والتمزق.. الكل تنافس لحمل العبء عن الأب المعتز بكرامته.. والمتمسك بحقه ولم يجد الصغار غضاضة أو حبا فى مهن مؤقتة بقروش قليلة.. يسلمونها كل مساء للأم.. ويستأنفون المذاكرة الجماعية على منضدة الطعام.
** الحب أصبح سياجا يحمى أسرة وصل عدد أبنائها إلى تسعة.. والأب الذى عاد لعهده.. عاشقا للبناء والتوسع فى انشاء الفصول.. بتبرعات الكرماء كان يرى نفسه فى طابور الصباح وتوزيع الكتب على الصغار.. ثم يستثمر باقى الوقت فى أكثر من عمل حتى بعد منتصف الليل.. مطمئن على منزله ورعاية ست الحبايب للأبناء.. ومبادرتها فى تلبية الطلبات الأسرية.. والالتزام بوعد الأب.. واصلوا التعليم.. النجاح وحده طريقكم لقطع باقى المشوار.. من يرسب لمرة.. ليس له بيننا مكان.. لم تطالبه بالذهب والمجوهرات والمستحيل.. ترجمت مشاعرها بالمساندة والانتظار فيما بعد.. منتصف الليل.. توفر له لقمة هنية وتضع قدميه فى الماء الساخن ليستطيع متابعة الجهد الخارق.. للعمل المتنوع.. ليواصل الأبناء التسعة التعليم.. فى باب المتفوقين وفى اللحظات القليلة التى كانت تجمعهم.. حفظوا عبارته الخالدة.. يتباهى الناس ببناء العمارات والفيلات.. واقتناء السيارات الفاخرة.. وانا أفخر بكم.. أنتم العمارات التسع التى امتلكها.. بكل قرش حلال ونقطة عرق صادقة وشفافة.
** تكاثرت أشجار الحب.. فى المنزل السعيد.. تخرج الأبناء والبنات.. حصلوا على أعلى الشهادات.. جاءت لحظة الاستراحة.. عاد الأب من عيادة طبيب القلب.. مسرورا.. حيث لا حاجة له بقائمة الأدوية التى تقدمت واجبات ست الحبايب.. عند صلاة الفجر رحل.. خرجت الجنازة لدفنه قبل ان تدخل المسجد المجاور.. تلاميذه وأحبابه بالآلاف.. كانوا فى سرادق العزاء مضى الأب إلى رحاب الله.. تاركا منارة علم ينتفع بها الأجيال.. وبعد سنوات قليلة.. لحقت به الأم.. بعد معاناة صابرة للسكر ومرض الفردوس.. مضيا.. وتركا كتاب الحب والجودة.. من تسع نسخ.. يؤكد.. تتعدد قصص الحب.. ويبقى اريجها وعطرها لا يندثر رغم متغيرات الزمان والمكان والأحلام.