جميعنا يعول على المؤسسة التعليمية في تشكيل شخصية المتعلم وتكوين المفاهيم الأساسية التي تكون في جوهرها ماهية النسق القيمي، الذي يشمل في طياته مجموعة المعارف الراسخة، وما يرتبط بها من أداءات وممارسات تعبر عن فحوى القيمة، وهذا يُعد المقوم الرئيس لبناء الإنسان المالك لوعي في صورته القويمة، والقادر على حمل الرسالة الحاوية للمبادئ والأخلاق الحميدة؛ فيتوارثها الجيل تلو الآخر، دون فجوة أو اضطراب في التناول.
وثمرة البناء سابق الوصف يمد الأسرة والمجتمع، بل والعالم بأسره بإنسان متفرد في عطائه؛ حيث الوجدان الذي يحمل الحب والود والتراحم، ويبغض الظلم والفساد والقهر والعدوان، ناهيك عن رغبة في عمل جاد خلاق يضفي في طياته لمسات الابتكار؛ فيقدم حلولًا لقضايا شائكة، ويتحمل المسئولية والمقدرة على الوصال؛ فالبناء في ذهنه يدعوه لمزيد من الجهد واستثمار الطاقات والحفاظ عل نعمة الوقت وإدارته بصورة مفيدة له ولغيره ممن يوكل إليه أمره؛ فيعم الإعمار بصوره المتباينة.
إن دور المؤسسة التعليمية لا يتوقف عند حد إمداد أو إكساب الفرد بمجموعة من الخبرات الخاوية من ماهية النسق القيمي النبيل الذي يتبناه المجتمع وتقوم أركانه عليه؛ فالقاعدة جلية وتبدو في مقدرتنا على تضمين القيم والخلق الحميد في كافة ما نقدمه للمتعلم من خبرات بغض النظر عن طبيعة التخصص ومجاله، والدليل على ذلك ما نذكره من أهداف تتعلق بوجدان الفرد؛ ليتحلى بخصال طيبة نبيلة، نشجعه عليها ونعزز السلوكيات المتمخضة عنها، بل ويتوجب علينا رصدها وقياسها ليتسنى لنا تقويم المعوج من القول أو الفعل على السواء.
وندرك أن ثمرة العلم النافع كائن في إكساب الإنسان القيم الخلقية التي تدفعه لأن يشارك أخاه في أزماته ومعضلات حياته، ويقدم الحلول المنهجية ليواجه بها التحديات ويلبي من خلالها المتطلبات والاحتياجات ويساعد بواسطتها من يعاني العوز في صورته المادية أو المعنوية؛ فنرى التكافل والإيثار، ونرصد حالة الترابط والتماسك داخل المجتمع الواحد، وبين المجتمعات بعضها البعض، وهذا ما يُعظم من احترام الطبيعة الإنسانية التي خلقت في بني البشر لتتعارف وتعمر وتبني، لا لتتصارع وتتقاتل، ويقضي فيها القوي على الضعيف، ويطغى من خلالها الظالم على من لا يمتلك مقومات الدفاع عن نفسه.
ودعونا نؤكد على أن جل المناهج التعليمية التي تتبناها مؤسساتنا بسلمها المختلف وتنوع أنماط التعليم بها، تحظى بمحتويات ثرية الدلالة على القيم والأخلاق الحميدة، والتي في جملتها تشكل وتبني النسق القيمي الذي ننشده، وما علينا إلا أن نؤكد عليها من خلال أمرين، الأول إيضاح الهدف منها، والثاني ممارسة النشاط المؤكد والمعضد والمعزز للقيمة في نفوس المتعلمين بصورة مقصودة ومخططة، وهنا نرى أن الاهتمام بقياسها صار أمر مهمًا للغاية؛ إذ نضمن أو نتحقق من اكتساب المتعلم لهذه القيم النبيلة الحميدة، ونقدم من العلاجات اللازم منها حينما نرصد إخفاقًا حيال اكتسابها.
وحري بنا أن نناشد أصحاب الرسالة السامية القدوة في الفعل والقول، والمعضدين لتلكما القيم النبيلة في جنبات وأعماق وجدانيات المتعلمين، ونقول لهم: إن المهمة باتت جسيمة في عصر الفضاء المنفلت، الذي يفتقر للضابط والمعيار في آن واحد؛ فالأمر جد خطير ويستلزم الاهتمام والتخطيط لإكساب الأبناء القيم التي تحميهم من مخاطر ليست بالبعيدة، وفي هذا السياق نؤكد على أهمية القدوة التي يستلهم منها المتلقي التصرف القويم وفق مقتضيات الموقف أو القضية التي يواجهها.
ننادي بصوت عال كل من يقع على عاتقه إدارة مؤسسة تعليمية، وندعوه ونحثه على أن يراقب بكثب مدى تحقيق الأهداف التي تنبري على النسق القيمي، وتترجمها سلوكيات نستطيع أن نرصدها، وأن يطمئن لتوافر مقومات تحقيق الأنشطة الأساسية منها والإثرائية والعلاجية، والتي تستهدف اكساب المتعلم الخبرات المعضدة للنسق القيمي في مكونه الرئيس، وأن يراجع الخطط؛ كي تواكب التطورات والتغيرات التي تطرأ على الساحتين الداخلية والخارجية، وأن يختلق المناسبات والفعاليات التي من شأنها تسهم في تقوية الروابط بين المتعلم ومؤسسته ومعلميه وكل المنتسبين لها.
إن غور الثقافة ورسوخها مرهون بقيم نبيلة تعضد الخلق القويم، والمؤسسة التعليمية الشريك الرئيس في بناء هذا النسق الذي نحافظ به على وطننا ممن يحاولن تجريف الأصول والحضارات والنيل من الثقافات؛ لتحل المادية البحتة في أفئدة وقلوب بني البشر، وهذا هو الخطر العظيم الذي إذا ما تمكن من مجتمع عجل بسحق نسيجه وتفكيكه؛ فلا مكان لمقولة إن الغاية تبرر الوسيلة؛ لكن المسلمة الأكيدة أنه لا يصح إلا الصحيح الذي يتناغم مع النسق القيمي النبيل .. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر