لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا هامًا خلال الربيع العربي حيثُ سهلت التواصل والتفاعل بين المشاركين في الاحتجاجات السياسية السلميّة. استخدمَ المتظاهرون مواقعَ التواصل الاجتماعي لتنظيم مظاهرات سواء مؤيدة أو معارضة للحكومة كما قاموا بنشر المعلومات حولَ أنشطتهم ورفع وعي المُتلقي بما يحصلُ في بعض المناطق.
تعاظم دور وسائل التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فلم تعد تقتصر على كونها نافذة للتواصل بين الأفراد، وإنما باتت تشكل أهم أدوات التأثير في صناعة الرأي العام وتشكيله وتنشئة الشباب وتثقيفه سياسياً، بل وينظر إليها البعض على أنها يمكن أن تقود حركة التغيير في العالم العربي. لكنها في المقابل باتت منصة مثالية للجماعات المتطرفة والإرهابية لنشر أفكارها الهدامة وتجنيد النشء والشباب وغسل أدمغتهم، وهذا يثير بدوره مجموعة من التساؤلات المهمة منها: ما هي طبيعة العوامل التي تعزز دور وسائل التواصل الاجتماعي؟ وما هي طبيعة تأثيرها في صناعة الرأي العام وتشكيله؟ وكيف تؤثر في عملية تشكيل الوعي لدى الشباب وتعزز مشاركته في الحياة السياسية؟ وما هي التحديات التي تطرحها بالنسبة لأمن الدول العربية واستقرارها؟ وكيف يمكن إعادة تنظيم هذه المنصات وضبطها؟
في الأردن ظهرت صفحات ومجموعات عديدة على مواقع التواصل الاجتماعي، ومنها الفيسبوك، تدعو إلى الإصلاح، مثل: صفحة (محاربة الفساد والاستبداد)، وصفحة (الشعب يريد إصلاح النظام).
وفي فلسطين ظهرت عدة صفحات تؤيد الحراك الفلسطيني ومنها: (الشعب يريد إنهاء الاستيطان)، و(الانتفاضة مستمرة)، وهناك حسابات على الفيسبوك لقيادات الفصائل والمنظمات الفلسطينية، وكذلك حسابات خاصة للمواطنين الفلسطينيين.
لعل حرب عام ٢٠١٤، بين إسرائيل وفصائل فلسطينية في قطاع غزّة، كانت الحرب الأولى التي وُظفت فيها وسائل التواصل الاجتماعي بنجاح، بكونها قوة تسوية جذرية من الطرف الأضعف. ففي الحروب السابقة بين إسرائيل والفلسطينيين، مكنت القدرة التي تمتلكها السلطات الإسرائيلية من السيطرة على الوصول إلى أرض المعركة ونسج صورة معينة للحرب، وتصويرها بالطريقة التي تصب في مصلحتها، بعدها حربًا ضد الإرهاب. ولكن مع الانتشار الكثيف للهواتف الذكية،
وارتفاع عدد حسابات وسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير في قطاع غزّة خلال السنوات السابقة، اختلفت نظرة قطاع كبير ومتنوع من المراقبين بشكل ملحوظ تجاه هذا الصراع (daraj، 2017)، وذلك من خلال مشاركة الشبان والشابات الفلسطينيين في نقل الأعمال الوحشية التي ترتكبها إسرائيل بحق المدنيين في قطاع غزة، وبث الأخبار عبر منصات التواصل الاجتماعي من الفيسبوك والتوتير، وكسب تعاطف الرأي العام العالمي وكسبهم لمصلحة قضيتهم، ونقل روايتهم بأسلوب إنساني للعالم.
وفي المغرب ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في نجاح حركة 20 فبراير في تحقيق مطالبها وأهدافها الإصلاحية.
لا شك في أن تنامي تأثير وسائل التواصل الاجتماعي في المنطقة العربية والعالم لم يأت من فراغ، وإنما كان نتيجة مجموعة من العوامل والاعتبارات، لعل أهمها:
التزايد المستمر في أعداد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي الأمر الذي يتضح بجلاء عند مقارنة هذه الأعداد خلال السنوات القليلة الماضية، ففي العام 2017، كان أقل من 2.5 مليار شخص على وسائل التواصل الاجتماعي في جميع أنحاء العالم، بينما وصل هذا العدد في عام 2019 إلى 3.5 مليار مستخدم في جميع أنحاء العالم، بما يعادل حوالي 45% من إجمالي عدد سكان العالم
وفي ما يتعلق بالعالم العربي وحسب التقرير الصادر عن مؤسسة هوتسويت الكندية عن العالم الرقمي للعام 2019، فقد وصل عدد مستخدمي مواقع التواصل 136.1 مليون شخص أي نحو 53% من عدد سكان الدول العربية؛ الأمر الآخر الذي لفت إليه التقرير أن الدول العربية تتفوق على الدول المتقدمة في مدة استخدام الإنترنت بأكثر من ساعة ونصف يومياً على الأقل، وذلك بالنسبة للفئة العمرية من(16-64) عاما، إذ أن متوسط مدة تصفح المستخدم في السعودية على سبيل المثال بلغ أربع ساعات و14 دقيقة؛ وفي مصر بلغ ثلاث ساعات و55 دقيقة؛ وفي الإمارات وصل إلى ثلاث ساعات و53 دقيقة؛ أما في المغرب فتبلغ المدة ثلاث ساعات و31 دقيقة.
وهذه الأرقام كلها تفوق المتوسط العالمي المحدد بثلاث ساعات و22 دقيقة
ويشير هذا إلى تعاظم أهمية وسائل التواصل الاجتماعي في الدول العربية، وأنها باتت أحد أنماط الحياة العامة في الحياة المعاصرة، وباتت ضمن آليات التسويق الاجتماعي والسياسي التي يتم توظيفها في العديد من المجالات.
القدرة على التأثير في الرأي العام إذ تسهم وسائل التواصل الاجتماعي في نقل الأفكار والآراء المتعلقة بقضية معينة لعدد كبير من الأشخاص في مناطق مختلفة من العالم، وتتيح بذلك المجال لبلورة رأي عام دولي مساند لبعض القضايا، وهو الأمر الذي ينتج عنه تغيير إيجابي في بعض مناحي الحياة، غير أنها في المقابل قد تقع في فخ التضليل الإعلامي والتأثير السلبي في الرأي العام، حينما يتم توظيفها بهدف تغيير قناعات أفراد المجتمع في دولة ما في اتجاه معين، وخاصة أثناء الانتخابات أو التصويت على قضايا مصيرية ترتبط بمستقبل هذه الدولة.
تشكل وسائل التواصل الاجتماعي نقلة نوعية في عالم الإعلام الرقمي فقد جعلت من العالم قرية متواصلة، خاصة أنها تسمح بإنشاء المحتــوى الإلكتروني وتبــادله (نصــوص، صــور، فيدبوهات، إلخ…)” عبر الإنترنت، وتتيح نافذة مهمة للتفاعل بين الأفراد
ولهذا يصفها البعض بأنها تشكل “إعلام العولمة” الذي لا يلتزم بالحدود الوطنية للدول، وإنما يطرح حدوداً افتراضية غير مرئية، ترسمها شبكات اتصالية معلوماتية على أسس سياسية واقتصادية وثقافية وفكرية، لتقديم عالم من دون دولة ومن دون أمة ومن دون وطن، وهذا ما جعل هذا الإعلام أكثر تأثيراً في سلوك الأفراد، وفي تكوين اتجاهاتهم وتعديلها، وتشكيل أفكارهم وتوليدها
كما يتسم هذا الإعلام “المعولم” كذلك بخاصية المجانية، فلا تحتاج الدعوة إلى نشاط معين في الفيسبوك إلى إمكانات مادية، فيكفي الاشتراك في الموقع، وبالتالي تأسيس مجموعة أو عدة مجموعات تتبنى مبادئ أو أفكار بعينها
التفاعل المكثف الذي تتميز به وسائل التواصل الاجتماعي من خلال خصائص تفاعلية عالية جدًا في مدى زمني قصير، وتعمل على إنشاء حوارات جماعية تضم أعدادا كبيرة من المشاركين، فضلاً عن أنها تعطي القوة لأي فرد من الجمهور ليصبح وسيلة إعلامية مستقلة بحد ذاته. كما تتيح تطبيقات مواقع التواصل الاجتماعي إمكانيات واسعة للاستقطاب والتعبئة والحشد على غرار ما حدث إبان ما يسمى “أحداث الربيع العربي”، حينما قامت بدور حيوي في التعبئة السياسية عبر الدعوة للمظاهرات والاحتجاجات ونشر الأخبار والفيديوهات، والتعبير عن الرأي، والنقاش السياسي المحرر من رقابة السلطة على وسائل الإعلام التقليدية. باتت وسائل التواصل الاجتماعي أحد أهم الفاعلين الدوليين، فلم يعد تأثيرها يقتصر على النظام الداخلي في دولة ما، وإنما يمتد إلى مجال العلاقات الدولية، وباتت تلعب دوراً في التفاعلات السياسية الدولية.
ولهذا يمكن اعتبارها أحد الفاعلين من غير الدول التي تمتلك القدرة على التأثير في تطورات الأحداث الإقليمية والعالمية، ولعل ما أثير عن تدخل روسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية في العام 2016 يُعد أحد تجليات التأثير الذي يمكن أن تحدثه وسائل التواصل الاجتماعي في هذا الشأن، حينما قامت شركة “كامبريدج أناليتيكا” باستغلال بيانات 50 مليون مستخدم لموقع “فيسبوك” لصالح شركات روسية لغرض التأثير في انتخابات الرئاسة الأمريكية
. ورغم أن موقع “فيسبوك” اعتذر عن هذه الواقعة، إلا أنها تظل تثير التساؤلات حول مدى التزام مواقع التواصل الاجتماعي بحماية بيان مستخدميها وضمان سريتها وعدم توظيفها بشكل سئ من جانب بعض الشركات أو الدول للتأثير في أحداث دول أخرى.
كما كشفت تقارير فرنسية عن تعاون شركة “كامبريدج أناليتيكا” مع شركة “إجريجت آي كيو” الكندية في التصويت لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، حيث ساعدت الشركتان تيار الانفصال في الفوز بالاستفتاء الذي حُسم بأقل من 2% من الأصوات
. كما أسهمت وسائل التواصل الاجتماعي بدور مهم في ما يسمى “أحداث الربيع العربي” التي اندلعت منذ نهاية العام 2010 في تونس وانتقلت إلى مصر ثم ليبيا واليمن، سواء من خلال التنسيق بين الشباب لتنظيم حركة المظاهرات والاحتجاجات، أو من خلال التحريض ضد الحكومات والدعوة إلى الإطاحة بها باستخدام شعارات تجذب الجماهير
دكتور القانون العام والاقتصاد الدولي
ومدير مركز المصريين للدراسات بمصر ومحكم دولي معتمد بمركز جنيف للتحكيم الدولي التجاري
وعضو ومحاضر بالمعهد العربي الأوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا