لم يكن يحيى السنوار أول الشهداء ولن يكون آخرهم، لكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يجعله رمزا ونموذجا في هذا الجيل لمن يقاتل من أجل وطنه وأرضه، ويضحي بروحه من أجل شعبه ومقدساته، فيخرس به ألسنة المرجفين الذين يحصرون الشهادة في الفتوحات والفاتحين، ويصطنعون تناقضا عجيبا بين الحرب من أجل الوطن والحرب من أجل الدين، ويخوضون في جدالات فارغة تبرر جبنهم وتخاذلهم وتقاعسهم عن نصرة أوطانهم وتحريرها من أيدي الغاصبين.
استشهد الرجل الستيني في مشهد مهيب من مشاهد البطولات التاريخية، حيث قضى نحبه في اشتباك مباشر مع جنود الاحتلال، مرتديا زي المقاتل، وظل حتى الرمق الأخير يواجههم بالمدفع الرشاش على الخطوط الأمامية في رفح، مقبل غير مدبر، وهو وحيد جريح، لاتحميه قوة ولا تحرسه كتيبة، ثم يقذف بعصاه عبر يده اليسرى في اتجاه الطائرة المسيرة التي تلاحقه، وهذه النهاية تذكرنا مباشرة بنهاية بطلنا الشهيد الفريق عبدالمنعم رياض رئيس أركان قواتنا المسلحة في حرب الاستنزاف، الذي قضى نحبه في ميدان المعركة، وعلى خطوط الجبهة الأمامية.
ولا أظن أن نتنياهو وجنوده كانوا يريدون للقائد الفذ هذه الميتة الكريمة، بل كانوا يفضلون اغتياله في نفق، أو أن يأتوا به معتقلا مقيدا، خارجا من حفرة، ليوثقوا لحظة الاغتيال أو الاعتقال، لكن الخواتيم هدية أخيرة من جنس عمل صاحبها، ومن نسج يده، ومن مادة قلبه، الخواتيم لا تشترى، وقد أراد ألله سبحانه وتعالى أن يكون استشهاد السنوار على هذا النحو، ليظل مصدر فخر وإلهام لشعبه وأمته، ولكل الأجيال والأحرار في العالم أجمع.
وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا، انضم القائد الفذ إلى موكب عظيم طويل من الشهداء الأحياء، الذين سجلوا أسماءهم في صحائف الخلود، لايسألون عن أعراقهم وألوانهم ولغاتهم ومذاهبهم، فكلهم في سبيل الله، في سبيل المبدأ والقيمة والمعنى والقضية، وإن لم تكن الشهادة من أجل غزة وفلسطين والأقصى فلمن تكون؟
نحن أمام جيل من المقاومة لا يهاب الموت، ولا يحزن له، يؤمن يقينا بأنه على قائمة الشهادة في كل لحظة، ويؤمن يقينا بأنه يعمل بإرادة الله وعلى عينه، يخلف القائد قادة، والجندي عشرة، والشهيد ألف مقاوم، ويوقن بأن أرضه تنبت المقاومين كما تنبت الزيتون، وتورث الإباء للأجيال كما ورثته من الأنبياء والصحابة والصالحين والمجاهدين الأوائل.
أغلقت صفحة السنوار كما أغلقت من قبل صفحات الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وصالح العروري وإسماعيل هنية وحسن نصر الله، لكن المقاومة لن تنتهي، المقاومة ليست اسما من هذه الأسماء، وليست محصورة في حماس أو فتح أو الجهاد، المقاومة عقيدة تنتقل من جيل إلى جيل مادام الوطن محتلا، تسقط الأجساد وتتوالى الأسماء ويتعدد القادة ويكثر الشهداء، وتظل المقاومة باقية ما بقي الاحتلال، المقاومة فكرة، والفكرة لا تموت.
وطوفان الأقصى ليس مجرد حادث عابر كما قد يتصور البعض، وليس مجرد جولة، إنه معركة من كبريات المعارك في تاريخ أمتنا، مثل اليرموك والقادسية وعمورية وحطين وعين جالوت، معركة فاصلة بين الحق والباطل، بين البقاء والفناء، بين العيش بحرية وكرامة وعيش المذلة والتبعية تحت الهيمنة الأمريكية ـ الصهيونية، وقد امتدت المعركة لأكثر من عام، وما زالت مستمرة، على عكس المعارك الأخرى التي لم يستمر بعضها سوى ليوم أو بعض يوم، أو لأيام قلائل، وما زالت فئة قليلة من المقاومين هي التي تواجه قوى الاستكبار العالمي مجتمعة، على عكس المعارك الأخرى أيضا، التي كانت فيها الأمة بأسرها تتصدى لجحافل البغي وحملات التآمر، وكانت فيها الإمدادات تأتي من بلاد المسلمين كافة، وكانت المساجد ترتفع بالدعاء للمجاهدين بالنصر، أما في هذه المعركة فلا إمدادات ولا دعوات، بل هناك صامتون وشامتون ومثبطون ومتخاذلون.
ومن عجائب زماننا العربي أن ترى قوما يسارعون في تشويه المقاومة عند كل نازلة، ويزعمون أنها تضر بقضية فلسطين، ويجتهدون في لوم المقاومين وسبهم، واتهامهم في دينهم ووطنيتهم، وهؤلاء لا دخل لهم ولا علم ولا دراية بأمور المقاومة وحروب التحرير، وكان الواجب عليهم أن ينأوا بأنفسهم عن التدخل فيما يقرره من يقاوم على الأرض، ويكفيهم قعودهم مع المخلفين، لكنهم أقحموا أنفسهم فيما لا شأن لهم به، إذ لا يجوز لقاعد أن يفتي لمجاهد، وقد سئل أحد الفقهاء عن السبب في جعل باب الجهاد في آخر كتب الفقه فقال: “لئلا يتكلم في الجهاد من لا يحسن الوضوء”.
وعلى أية حال فقد رد بيان الأزهر الشريف للمقاومة وأبطالها اعتبارهم وكرامتهم، فقال بكل وضوح: “إن شهداء المقاومة الفلسطينية كانوا مقاومين بحق، أرهبوا عدوهم، وأدخلوا الخوف والرعب في قلوبهم، ولم يكونوا إرهابيين كما يحاول العدو تصويرهم كذبًا وخداعًا، بل كانوا مرابطين مقاومين، متشبثين بتراب وطنهم، حتى رزقهم الله الشهادة وهم يردون كيد العدو وعدوانه، مدافعين عن أرضهم وقضيتهم وقضيتنا؛ قضية العرب والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
وشهد الأزهر الشريف في بيانه بأن “شهداء المقاومة الفلسطينية أبطال، طالتهم يد صهيونية مجرمة، عاثت في أرضنا العربية فسادًا وإفسادًا، فقتلت وخرَبت، واحتلت واستولت وأبادت أمام مرأى ومسمع من دول مشلولة الإرادة والقدرة والتفكير، ومجتمع دولي يغط في صمت كصمت الموتى في القبور، وقانون دولي لا تساوي قيمته ثمن المداد الذي كُتبَ به”.
وشدد البيان على أهمية فضح كذب الآلة الإعلامية الصهيونية وتدليسها، ومحاولتها تشويهَ رموز المقاومة الفلسطينية في عقول شبابنا وأبنائنا، وتعميم وصفهم بالإرهابيين، مؤكدًا أن المقاومة والدفاع عن الوطن والأرض والقضية والموت في سبيلها شرفٌ لا يضاهيه شرف.