لم تترك إسرائيل جريمة من جرائم الإبادة الجماعية إلا ارتكبتها في غزة، على مرأى ومسمع من العالم، لم يعد أحد معذورا بجهله عما يحدث، ولسوف يسأل هذا الجيل أمام الله وأمام التاريخ عن عجزه المخجل الذي أقعده عن نصرة غزة في أصعب ابتلاءاتها، وقد رأى بعينيه كيف يباد شعبها المستضعف تحت الحصار، وكبف يضرب على مدار الساعة بأحدث الأسلحة وأشدها فتكا وهو ممنوع من السلاح والعتاد ولقمة الخبز وشربة الماء.
لم يتعرض شعب من الشعوب التي ناضلت من أجل حريتها واستقلالها لمثل هذه المحنة الثقيلة، ولا حوصر شعب مثلما حوصر شعب غزة، ولا كتب شعب أسطورة للصمود البطولي مثل تلك المعجزة التي كتبها شعب غزة على مدى 14 شهرا.
إسرائيل تقتل المدنيين وتعتقل المئات منهم بدون اتهامات لأنها فشلت في القضاء على المقاومة، وتركيزها على هدم المنازل والمساجد والمستشفيات والمدارس والجامعات وتخريب الزراعات والمرافق يفوق تركيزها على هدم الأنفاق ومواجهة المقاومين، وهذا مقصود بالطبع لتحقيق الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، وإغلاق ملف قضيته للأبد، فرجال المقاومة ليسوا هم الخمسين ألفا الذين حصدتهم الآلة العسكرية الإسرائيلية، والأطفال الذين قتلوا ليسوا من المقاومة، والنساء الحوامل والعجائز لم يكن في أيديهن سلاح، والبيوت والمستشفيات التي يتم تفجيرها ليست أنفاقا، الأمر الذي يؤكد أن جرائم إسرائيل ليست انتقاما من طوفان الأقصى، وليست من أجل أمن الإسرائيليين، وإنما هي حرب تطهير عرقي وإبادة جماعية ممنهجة، مستندة إلى أيديولوجية دينية استئصالية قديمة، لمحو شعب فلسطين من الخريطة، وإحلال اليهود محله.
ويأتي إعلان وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سيموتريتش بمصادرة 23 ألف دونم من أراضي الضفة الغربية وتحويلها إلى أملاك للدولة اليهودية ومستوطنات جديدة، وكذلك قيام الجيش الإسرائيلي بطرد مواطني شمال قطاع غزة من منازلهم، وقصف الخيام التي أقاموها في العراء، من أجل تفريغ ثلاثة أرباع القطاع من سكانه، وإنشاء منطقة عازلة وإعادة النشاط الاستيطاني إليه، كل ذلك يأتي في إطار خطة الضم الصامت للأراضي المحتلة، وتغيير الوقائع على الأرض لمنع إقامة الدولة الفلسطينية، والتمهيد لبسط السيادة الإسرائيلية على أرض فلسطين كاملة من النهر إلى البحر، عندما يتولى الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب مهام منصبه في 20 يناير القادم.
وهكذا فإن كل الشواهد تشير إلى خطورة جرائم الإبادة بحق الشعب الفلسطيني المظلوم، بينما يقف العالم بمنظماته وقوانينه عاجزا عن ممارسة أي دور فعال لإيقاف العدوان غير الآدمي، مكتفيا بإصدار تلال من التقارير والبيانات والمناشدات والمطالبات التي فقدت معناها، ولم تعد تعني شيئا.
ويوم الخميس الماضي أصدرت منظمة العفو الدولية تقريرا جديدا اتهمت فيه إسرائيل بارتكاب جريمة “إبادة جماعية” بحق الفلسطينيين في غزة، وقالت إن الأدلة التي جمعتها تظهر بوضوح أن إسرائيل فتحت ـ ومازالت تفتح ـ أبواب الجحيم والدمار على الفلسطينيين، كما أن الدول التي تتورط في توريد الأسلحة لإسرائيل في هذه الفترة تنتهك التزاماتها الدولية بمنع الإبادة الجماعية، وقد تصبح متواطئة في الجريمة، وأعربت المنظمة عن أملها في أن يشكل هذا التقرير “تنبيها” للمجتمع الدولي للقيام بتحرك عاجل لإيقاف الجريمة، وبسرعة ردت الخارجية الإسرائيلية على البيان، متهمة منظمة العفو بأنها بائسة ومتعصبة وتقريرها ملفق وخاطئ تماما، ومبني على أكاذيب.
وقد جاء تقرير منظمة العفو بعد أسبوعين فقط من إصدار المحكمة الجنائية الدولية أمري اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف جالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ضد الفلسطينيين في غزة، وبعد إصدار كل من الأمم المتحدة والمنظمة الدولية لحقوق الإنسان تقريرين منفصلين في 14 نوفمبر الماضي اتهما إسرائيل بأن ممارساتها خلال حرب غزة تتسق مع خصائص الإبادة الجماعية، وترقى إلى جريمة حرب.
لكن إسرائيل لم تعبأ بهذه التقارير، كما لم تعبأ بالمطالبات والمناشدات التي جاءتها من القمم العربية والإسلامية والخليجية المتتالية، ومن بلاد العالم شرقا وغربا، ولم تتغير مواقف الدول الداعمة لها مع تكرار الاتهامات بجرائم الإبادة الجماعية، ولم تتراجع الدول التي تصدر إليها الأسلحة عن مدها بكل ماتحتاج إليه من سلاح وعتاد، وتعويضها ـ مجانا ـ عن الأسلحة والمعدات التي فقدتها.
وكان لدى إسرائيل من فجور القوة ما يدفعها للهجوم على كل من ينتقدها، أو يرفض سلوكها، حتى طال هجومها أمين عام الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وموظفي الإغاثة الدولية، ومحكمة العدل والمحكمة الجنائية، بل وصل الأمر إلى اتهامها للشعوب الغربية بمعاداة السامية، وهي الشعوب التي تسدد أنظمتها الحاكمة فواتير شحنات الأسلحة المرسلة إلى الدولة العبرية.
وسوف يزداد هذا الفجور شدة وعنادا بعد الإنذار الأحمق الذي وجهه ترامب بتحويل الشرق الأوسط إلى جحيم إذا لم تطلق المقاومة الفلسطينية سراح الأسرى الإسرائيليين قبل أن يتولى سلطاته، ولعله قد فطن إلى ذلك متأخرا فأرسل مبعوثا له إلى المنطقة ليبدأ من جديد رحلة البحث عن صفقة لإيقاف الحرب وإطلاق الأسرى.
ومما يؤسف له أن العالم الإسلامي الذي كانت فلسطين قضيته الأولى على مدى عقود مضت غاب صوته وسط هذا الخضم الهائج، ولأول مرة في التاريخ يشاهد المسلمون مشاهد حقيقية بالعين المجردة لإخوانهم يقتلون ويذبحون على الهواء، وترتكب في حقهم فظاعات تفوق الخيال، حتى أكلت الكلاب جثث الشهداء الملقاة في الشوارع، وما زالوا محافظين على ضبط النفس، لإخفاء ضعفهم وتخاذلهم وهوانهم على الناس.