النُّخبة في صورتها العمومية أوانٍ فارغة؛ وتستدعي التعبير الشائع بأنها كالطبول الضخمة، التي يجري قَرْعُها فتصدر ضجيجاً أجوف المعاني، ولا فعالية له أكثر من إثارة ما يلوث الأسماع. وذلك الرَّأيُ ليس حُكْمًاً قِيَمِيَّاً؛ إذ قَلَّما تضع يديك على نخبويٍّ متمكن من أدواته ومفاهيمه بالطريقة العِلْمَوية وليست الشعاراتية؛ فهو يمارس البراعة في قراءة الواقع وتطوراته ومتحولاته؛ فيما الأغلبية لا تؤدي وظيفتها المرتقبة باستصناع الخطاب الذي يقوم بتشكيل الوعي الجمعوي الصواب.
ونتيجة لتداعي محمول خطاب أصحاب العقل النخبوي الراهن؛ فإنك لا تشاهد سوى تواصل هيمنتهم على العقل الشعبوي؛ عبر ركوب دواب التواصل الاجتماعوي؛ فيقومون بتزييف وعيه الخام بطريقة تتسبب في تدمير أدوات فهم الجماهير ليجعلوا منها قطعاناً تابعة؛ يُلهبون عقولها بسياط تضليلهم.
وعلى سبيل المثال لا الحصر؛ لعل “المسألة السورية” الراهنة باعتبارها “حديث الساعة” تُشكل أفضل أنموذجٍ للحكم على ذلك العقل النخبوي المصاب بالعته المفاهيمي؛ وهذا الْعَتَه يتسبب في تزييف الوعي . ما يعني أن جزءاً من مِحْنَةِ هذه الأمة يكمن في نخبتها بعقلها المزيف وما يترتب على هذا العته من تعميق الأزمة الحضارية.
إن حالة الهياج الإليكترونية الراهنة حول “المسألة السورية” تمثل الأنموذج المقصود برغبة فضح خطاب تلك النخبة المتردي والمتعلق بالحدث. فتلك النخبة تتغافل قبل أن تكتب أو تتكلم عن مُراجعة الاصطلاحات التي تروِّج لها؛ وقياسات القوى الفاعلة؛ وبيئتها المنتجة؛ ونوعية الرعاية التي تحتضنها؛ والمخططات والسيناريوهات التي توظفها لآداء فعالياتها.
النخبة المثيرة للحيرة؛ لا ترى إلى “المسألة السورية” غير مُتَغَيِّر ما أسموه “إسقاط بشار الأسد” رئيس النظام السوري؛ وخروجه من سوريا الذي وصفوه بالهروب (وهي قيمة وجدانية مرضية)؛ وتتناقل المواد الفيلمية الحيَّة لحالة انهيار قواعد ذلك النظام؛ فضلاً عن التسجيلات القديمة من سنوات سابقة. إذ لم تُجنِّد تلك النخبة المتهافتة عقلها وأقلامها لشرح “حقائق الواقع”؛ و”المسببات” التي أدت لذلك؛ بعيداً عما يُقال حول “قيم القمع” الموسوم بها ذلك النظام؛ و”طبائع الواقع” الجغرافي والعرقي والعقدي السوري.
النخبة الضحلة ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ لم تتوقف للتساؤل حول حالة السَّلْمِيَّة السلبية الغريبة التي بدا عليها الجيش السوري بطريقة ظاهرية دالة على الانهزامية من جيش له سلاحه الضخم؛ وكان مستعداً في الظروف الطبيعية لتحديات مواجهة الجيش الصهيوني المتربص.
هل فكرت تلك النخبة المريبة في “المسكوت عنه” المرتبط بحالة َسلْمِيَّة ذلك الجيش تلك ومدى إمكانية اعتبارها من “سيناريوهات إدارة الأزمة السورية الداخلية”؛ وحرصها بقياس معايير القوة الخارجية الداعمة للميليشيات المخترقة للأمكنة من أن يكون سكان “مناطق المعارك” ضحايا نتيجة للعنف المشترك الذي سيُمارس؛ فصدرت الأوامر الرسمية من القيادة بالانسحاب من أرض المنازلات؟
وهل تفكرت تلك النخبة فيما راج في الفضاء الافتراضي عن تلقِّي بعض وحدات الجيش السوري الرئيسة تعليمات مدسوسة بالانسحاب، وتسليم أسلحتها “نتيجة اختراقات شبكات التواصل العسكري” بين تلك الوحدات؟! إن فرق الجيش السوري كان بمقدورها خوض المعارك من بيت لبيت كما يُقال لوشاءت؟
لكن الخطا النخبوي توقف عند القول بما أسموه “هروب بشار الأسد”؛ وبالتالي وبالتبعية تكون النتيجة “هروب جيشه” أمام ميليشيات مستصنعة أميركياً وصهيونياً وعثمانلياً؛ لتنفيذ مستهدف “تفتيت الوطن السوري” بهدف تأمين الحدود الشمالية لدولة “الكيان الصهيوني”. ولعل التوغل الصهيوني في المناطق العازلة فور ترك السلطة للميليشيات يكشف مدى اللعبة التي تشارك فيها هذه الميليشيات.
والمريب أننا لم نقرأ أن الجولاني “أمير جبهة النصرة” الذي كانت تصنفه “ماما أميركا” نفسها إرهابياً؛ والمُعاد تزييف صورته القَاعِدِيَّة كحامل “لواء الإسلام” وقد احتضنته “الماما” بكافة المقاييس لذلك لم يَقُم بحشد مقاتليه على الفور، بعد أن دانت له دمشق وذلك لمنع الدبابات الصهيونية من الوصول إلى “جسر الرقاد” غرب محافظة القنيطرة؛ فضلاً عن استهداف الطائرات الصهيونية لمستودعات الجيش السوري في “نوى بريف درعا” لتأكيد احتلالها من جديد للأرض السورية؛ وهو العدوان الذي مالم تكن تجرؤ عليه بحضور الجيش السوري؟
والمؤسف أن النخبة المعتلة لم تمارس مهاراتها في “كشف المغلوط” بالمسألة السورية؛ ولكنها أخذت تقرع الطبول؛ وترقص وترقص وترقص بكتاباتها حول “سقوط النظام السوري” نتيجة ما أسموه “الثورة السورية”؛ والمدهش أن تلك النخبة وصفته فقط بعد سقوطه بالنظام القمعي والدموي؛ فهل “حضرة جنابها” لم تكتشف قمعيته إلا بعد أن غادر المسرح؟!!
وهنا مربط الفرس؛ فاصطلاح “الثورة” الذي تلوكه النخبة المتداعية العقول والوجدان بإفراط أشبه بالهلوسة؛ يسبغ غِطاء القداسة والفرح على فعل “الفوضى الشعبوية” المنتجة بوسائط التواصل الاجتماعوي في عصرنا الراهن. إذ تلك النخبة لا تتوقف وتتفكر حول ما تلوكه تجاه المفهوم الحقيقي لاصطلاح الثورة؛ وهدفه النبيل كفعل محسوب؛ وطبيعة أدواته؛ والسياق الإيديولوجي الضابط؛ ومدى دراسة مشروعه وارتكازه إلى عناصر محددة ومدروسة؛ وارتباطها بهدف وطني مشروع.
النخبة المعتلة الفهوم تلوك “اصطلاح الثورة” بمجانية مطلقة؛ مستفيدة إذا أدركت ذلك من زئبقية المفهوم المُسمى “الثورة” حتى لو كانت نوعاً من “الفوضى المرتبة” من جماعات معينة لتوظيف الشباب حديث العمر والمُسَطَّح العقول والتافه الثقافة في إحداثها؛ أو بالفعل الميليشياتي العسكريتاري الهادم لبناء الدولة بمحركاته العقدية الكاذبة؛ وارتباطاته الجماعاتية الموصومة بالإرهاب ( جماعة حسن الساعاتي البناء والقاعدة وداعش و… و… و… إلخ).
لقد ترسخ هذا التوجه في الخطاب السياسوي منذ ما أسميها “فوضى يناير 2011م” في مصر؛ وقبلها ما حدث في تونس؛ وهي كفعل بهذا الفهم لم تأتِ بخيرٍ لأوطانها، مع وجود الجماعة الساعاتية وبيادق التنشط الدولاراتي (والواقع التطبيقي لهذا التطبيق الهادم ظهر في العراق وليبيا واليمن والسودان ومصر التي أفلتت بحماية جيشها؛ وأخيراً سوريا).
إن “الانقلاب العسكري” بصورته التقليدية حين يحدث في دولة ما؛ لا يظهر كما رأينا في صورة السطو المسلح على المنازل والمؤسسات والأسواق؛ وحرقها ونهبها؛ واقتحام السجون وإطلاق المجرمين؛ والنماذج التطبيقية كثيرة (حريق المجمع العلمي في مصر أنموذجاً)؛ فيما الفوضى المستصنعة لا مثيل لها بحدوث الانهيارات المجتمعية التي تؤكد غياب السلطة الضابطة للدول؛ وحماية أمنها الداخلي والخارجي؛ وهذا ما يحدث راهناً في سوريا المنتكبة بميليشياتها المستأجرة من رعاة خارجيين.
ولعل تصريح “جو بايدن” الرئيس الأميركي الذي سيرحل قريباً يكشف أحد جوانب لعبة “سيناريو الشرق الأوسط الجديد” بقوله الكريه الكاشف لأدواته:” تم تحرير سوريا، وسنعمل مع الجماعات السورية لتأسيس المرحلة الانتقالية”. وعلى الرغم من محدودية الكلمات، فإنها تنذر بالكوارث التي تنتظر الدولة السورية لاحقاً.
إذ بقراءة ذلك التصريح تضع اليد على أن “التحرير” المقصود من “ماما أميركا”سيكون من “نظام الدولة الموحدة”؛ لتتعدد “أنظمة الميليشيات”؛ ويجري فعل تقسيم الوطن الواحد؛ وستتولى العمل مع الميليشيات الإسلاموية لتأسيس المرحلة الانتقالية لتتحول سوريا الوطن الواحد إلى “حارات متعددة” بالهويات العقدية والعرقية؛ وهو ما تُريده “ماما أميركا وابنتها إسرائيل”؛ وبذلك يتواصل تفتيت دول الوطن العربي. إنها هنا أم “سيناريو الشرق الأوسط” الجديد.
وعلى الصعيد نفسه فمن يتابع فضاء “فيسبوك” و”تويتر X ” سيجد أن قطعان “جماعة حسن الساعاتي البنَّاء” بصفاقة يشعلون الفضاء الافتراضوي بالفرحة الكذوب لانهيار النظام السوري؛ ويطلقون “هاشتاجات” من نوعية “مصر محتلة”؛ ومقصودهم أن جيشها الوطني ونظامها البارع هو المحتل؛ وهناك من المتأخونين الهاربين من يكتب:” مبروك لأهلنا في سوريا وعقبال مصر”!! وقد خسِئَ بثغائه الكريه أن يتمنى لمصر ما حدث في سوريا وهو ما فشل سابقاً بفعل تلك الجماعة الصهيوماسونية؛ لأن مصر هي البلد المُقَدَّر له أن يكون مطمئناً بالوعد الإلهي منذ مطالع الزمان؛ ولتبقى “مصر الآمنة” الوطن الذي لا تتغير هويته ووجوده السياسوي ووزنه الاستراتيجوي.
ألا ليت النخبة المتبنية للخطاب والمفاهيم الميليشياتية تتنبه لخلل الفهم الذي أصابها؛ فتدرك ضرورة أن تقرأ لتعرف؛ وتتفكر لتفهم؛ وتتخير آلفاظها لتكون صادقة؛ وتمارس دورها في “تعميم الوعي الصادق” بأن “النِّظام” في دولته مهما كان توصيفه لا يحتل الوطن؛ وأن “الجيش الوطني” لا يستعمر الوطن؛ فاقرأوا وأدركوا خلل النخبة حين تسقط فتتبنى خطاب الميليشيات الهادمة للأوطان