نشأت الدراما المصرية خاصة السينما للتسلية والترويح عن الناس ولكنها مع مرور الزمان وجاذبيتها للمشاهدين أصبحت عنصرا مهما في مسيرة التنوير والحفاظ على الخلق الكريم وفيلم (أم رتيبة) الذي تمبز بمساهمة العديد من النجوم كضيوف شرف يتصدى لظاهرة سلبية سادت المجتمع في الخمسينيات ونعني بها تحضير الأرواح ونجح في مهمته ليعيد المشاهدين إلى الطريق السليم..
من أهم مهام الدراما النظيفة الدفاع عن الأخلاق والقيم الكريمة.. ومساندة ما جاءت به الأديان السماوية.. من التزامات ونصائح وإرشادات وتوجيهات.. تضمن للإنسانية كرامتها وللبشر سعادتهم واختيارهم لحياة طيبة هادئة ومثمرة وناجحة.
ولذلك تتجدد الرغبة عند الكثيرين من تكرار مشاهدة هذه الأعمال الهادفة.. خاصة ان جاءت رسالتها بسيطة واضحة ومن هنا مازال فيلم »أم رتيبة« قصة يوسف السباعي وإخراج الفنان القدير السيد بدير ومعاونه أحمد السبعاوي عام 1959 صالحاً للعرض.. ممتد التأثير في عقول المشاهدين.. ينبه إلي الخطأ في أسلوب كوميدي خفيف.. ويرسم طريق الحل بجدية مبسطة واضحة المعالم.
الفيلم جاء ليواجه موجة غريبة عن مجتمعنا.. قادمة من جنوب آسيا فيما أذكر.. تتلخص في دعوة الناس ــ كل الناس.. لتحضير الأرواح في منازلهم ببساطة مذهلة مجرد سلة من الخرزان معلق بأسفلها قلم رصاص أو جاف.. يحملها الوسيط في صالون العائلة.. يلتف حوله الأقارب والجيران.. تطفأ الأنوار فيما عدا ذلك الموجه للمنضدة الرئيسية.. بعد لحظات ومع ما تشعر به اليد الحاملة من تعب.. تحط علي الورق طلاسم وسطور.. يظنها الحاضرون رسالة من الآخرة.
من هنا جاءت الفكرة الرئيسية للفيلم موظف بالمعاش »فؤاد شفيق« يعيش مع شقيقته أم رتيبة التي فاتها قطار الزواج »ماري منيب« يريد الزواج منها الجار سيد بنجر صاحب معمل الطرشي بالحارة »حسن فايق« ولكن الشقيق الأكبر يرفض الزيجة بكل الوسائل والإصرار، وكذلك الأخ الصغير.. الكمساري عمر الحريري الذي يريد الزواج من جارته الحسناء »آمال فريد« لكن الأخ الأكبر يوهمه بأنه مريض بالقلب.. لا يصلح للزواج.. وأنه كان سيحاول علاجه بجلسات تحضير الأرواح.
ويمتد تيار المجلس علي الخادم الخاص زينهم »عبدالمنعم إبراهيم« الذي يحب الخادمة وداد حمدي.. وينافسه في ذلك جزار الحي.. بما يملك من سطوة ونفوذ وأموال.. يسير الخط الرئيسي للفيلم.. حول جلسات الأرواح التي ينظمها الرجل العجوز ويحضرها أصدقاء المقهي.. محمد الطوخي وشفيق نور الدين وصديق ثالث.. وتشابك الأحداث مع تعدد الجلسات.. الخادم زينهم هو الوسيط باقتدار والجلسات يتخللها الألفاظ الساخنة والضاحكة والمشاهد غير المتوقعة.. لكل حضور روح إحدي الراقصات.. وتؤدي فاصلاً راقصاً هلامياً يثير التساؤلات »نجوي إبراهيم«.
تصل الأحداث إلي النقطة الحاسمة حيث يدرك الشقيق العجوز أن الجميع يكرهونه لمواقفه المتشددة والغريبة.. يصاب بنوبة قلبية.. يغادر بعدها الحياة.. وفي كلماته الأخيرة تجد أم رتيبة أنه سيحضر بروحه إلي غرفته في اليوم الأربعين بعد الوفاة.. ذلك الحدث الذي آثار اهتمام أهالي الحارة.. واحتشدوا جميعاً في منزل أم رتيبة.. اليوم الموعود.. تدخل غرفته.. وتغلق الباب.. بعد قليل تخرج إليهم في ثيابه.. جلبابه.. نظارته.. طاقيته.. وتتحدث إليهم بصوته.. لكن الشيخ صديقه يتلو عليها آيات من الذكر الحكيم.. مذكراً الجميع بأن الروح من أمر ربي وأن الإنسان لم يؤت من العلم إلا القليل.
تأتي النهاية السعيدة.. ثلاث زيجات متتالية أولها أم رتيبة وسيد بنجر.. وبدلاً من كلمة »النهاية« ينتهي الفيلم بالعبارة الجميلة »عقبال عندكم«.. واليوم عندما نشاهد الفيلم الذي لا يعاد عرضه علي الفضائيات إلا كل حين.. نتذكر أن الرسالة وصلت.. ولم نعد نسمع في أيامنا عن جلسات تحضير الأرواح بالمقارنة لما حدث في الستينيات.. وتتجدد ملحوظة مهمة.. لعلها تكون موضع دراسة المتخصصين في تاريخ السينما.. فقد لفتت نظري بقوة وأعني بها تلك الروح التضامنية التي عبر عنها الفنانون لصديقهم السيد بدير في أول عمل إخراجي له.. بعد تاريخ طويل مع شخصية عبدالموجود ابن عبدالرحيم كبير الرحمية قبلي.. حيث استمرت مبادرة »ضيوف الشرف«.. بمشاركة غير مسبوقة شملت الراحلين الأصلاء.. أحمد مظهر وعماد حمدي.. حسين رياض.. فريد شوقي.. نجوي فؤاد.. حتي محمود شكوكو أشهر من غني المونولوج قاد الاحتفال الجنائزي بذكري الأربعين بطل الفيلم »فؤاد شفيق«.. وهكذا تبقي الأعمال الطريفة رصيداً نافعاً للمبدعين الراحلين.