التاريخ يُعيد نفسه لكن ليس في كل مكان كما يحدث في مصر. هنا لا تسير الأمور وفقا لمنحنيات الصعود والهبوط التقليدية ، بل وفق معادلة فريدة تجمع بين الانكسار والانتصار وبين الضعف والقوة ، وبين الترنح والتماسك. إنها الأمة المصرية ، تلك التي لم تخترع التاريخ لكنها فرضت نفسها عليه فلم يكن بوسع الزمان إلا أن يحفظ لها مكانها في مقدمة الصفحات.
مصر ليست مجرد وطن بحدود جغرافية ، ولا شعبا تجمعه رقعة من الأرض ، بل كيان إنساني متكامل تداخلت فيه الحضارات وتشابكت على أرضه الثقافات ، حتى صُنعت هوية لا يمكن أن تتكرر. هنا حيث تُصنع الأحداث وحيث يُعاد تعريف معنى الاستقلال ، وحيث تظل الأمة عصية على الاندثار مهما بلغت التحديات.
حين ننظر إلى ما يحيط بنا من فوضى ، ندرك أن مصر ليست فقط استثناء ، بل هي المعادلة الصعبة التي لم تستطع قوى التاريخ حلها. كيف لدولة تعرضت لمئات الغزوات وقاست من الاستعمار أشكالا وألوانا أن تظل صامدة؟ كيف لشعب تحمل القهر والاحتلال أن يظل متماسكا؟ الجواب يكمن في تلك الروح المصرية الفريدة التي لا تقبل الخضوع ولا تعترف باليأس ، ولا تقبل أن تُساق كما تُساق الأمم الأخرى نحو مصير مجهول.
عندما نتحدث عن “الأمة المصرية”، فإننا لا نتحدث عن مفهوم ضيق أو نظرة عنصرية كما حدث في التجارب القومية الأخرى. الأمة المصرية ليست انعزالًا عن العالم ولا تعصبا لجنس دون آخر ، بل هي مزيج إنساني رائع اختلطت فيه الدماء وتمازجت فيه الثقافات ، حتى صار من الصعب أن تجد تعريفا دقيقا لها. المصري منذ فجر التاريخ ، لم يكن منغلقا على ذاته بل ظل مرحبا بالوافدين مستوعبا للغريب متفاعلا مع القادم حتى صار الاندماج هو القاعدة وليس الاستثناء.
كم من قوة حاولت أن تفرض سطوتها على مصر؟ كم من محتل ظن أنه قادر على طمس الهوية المصرية؟ لكن في كل مرة كانت النتيجة واحدة: يرحل الغازي وتبقى مصر. لأن هذه الأمة ببساطة لا تعرف الفناء. انظر إلى مشاهد التاريخ، ستجد أن الاحتلال الفارسي والروماني والعثماني والبريطاني جميعهم جاءوا ورحلوا وبقيت مصر. بقيت لأنها ليست كغيرها ، ولأنها ليست أرضا تُحتل ثم تُفرغ من هويتها، بل هي هوية قائمة بذاتها ، قادرة على امتصاص الصدمات وإعادة تشكيل ذاتها ، دون أن تفقد جوهرها.
هذه القدرة العجيبة على الاستمرار رغم المحن ، ليست مصادفة بل هي جزء من التكوين المصري. المصريون لا يؤمنون بالهزيمة ، حتى لو بدت عليهم علامات الإنهاك. قد ينحنون لكنهم لا ينكسرون قد يتألمون ، لكنهم لا يتلاشون. ولهذا لم يكن غريبا أن تكون مصر مركز التحولات الكبرى في المنطقة فهي ليست مجرد دولة تبحث عن مكان بين الأمم بل هي أمة تصنع مسارها بنفسها وتفرض واقعها على من حولها.
اليوم ونحن في زمن تبدو فيه الهويات مهتزة ، والأوطان مهددة بالتفكك تظل الأمة المصرية نموذجًا استثنائيًا للاستمرارية. رغم كل شيء لم تفقد هويتها ولم تنجر إلى مستنقعات الطائفية والعرقية التي ابتلعت غيرها. فهي ليست مجرد كيان سياسي بل كيان وجداني، يربط بين أبنائه خيط رفيع لكنه قوي أقوى من كل العواصف التي حاولت أن تمزقه.
في نهاية المطاف قد تمر مصر بمراحل من الضعف وقد تواجه تحديات قاسية ، لكنها لا تموت لأنها ليست دولة عادية بل فكرة خالدة أمة متجذرة في أعماق الزمن أمة كتب الله لها أن تبقى وأن تكون شاهدة على التاريخ لا مجرد صفحة فيه.