نور منذ طفولتها البريئة حُرمت من نعمة البصر والنور.. يطوف بخلدها أحياناً الأحداث البعيدة المؤسفة التى كانت تدور حولها و هى لا حول لها و لا قوة .. عُصفورة .. رقيقة أصابها المرض فى عينيها فلم يأتوا لها بطبيب بل تنازعتها الأيادى بكل جهل و غشامة و تم علاجها بالخرافات و غبار الفرن و أشياء ليس لها اى علاقه بالطب ففقدت البصر ولم تفقد البصيرة بل ازداد بداخلها الخيال الخفاق و البسمة الصافية فكانت تلهو وتلعب فى الخيال وترفرف بكلتا يديها كفراشة ضلت الطريق.
كانت البسمة الرقيقه لا تفارق ثغرها و ظلت تعتمد على أمها فى كل صغيرة و كبيرة الى ان فاقت ذات يوم على شيء يوقظها من نومها العميق، فليس شرطا ان يستيقظ الإنسان بانفراج الرموش العلوية عن السفلية، بل كثيرا ما يصحو الإنسان باحتضان رموشه بعضها البعض وإصراره على حجب الضوء عن الأعين فتهدأ النفس من النور الصاخب ويهرب ممن حوله باصطناع النوم ليختلى بنفسه ويستيقظ كل ما فيه ويدور العقل ويتأمل ويراجع اوراقه واحواله ؛ ولكن البعض لا يراجع إلا أحواله الدنيوية متغافلا أحواله مع الله و حقوق العباد ؛ هكذا كان استيقاظ الفتاة الحالمة ” نور” حيث تتعانق الرموش لتحجب لاشئ .. فليس هناك ما يشغل بالها فهى تعيش فى عالم آخر ..
كانت تختبئ وراء رموشها بإغلاقها بإحكام لتحجب عيون الآخرين عنها ويظن من حولها انها مستغرقة فى النوم و هى مستغرقة فى احوالها وأحزانها، تتسلح بالإيمان و تسأل نفسها : “ماذا عن القادم ؟؟ ” وتجيب فى صمت : ” يفعل الله ما يشاء”. وتذكرت حديث ابنة عمها عن زميلها فى العمل وكيف يتودد لها، وغدا أو بعد غد سيأتى لخطبتها وتمنت فى نفسها ان يأتى فارس أحلامها الذى يتربع فى خيالها بوجهه الطيب .. و لسانه الصادق .. البار .. الحنون .. و أخذت تعدد صفاته و كيف سيصبح لها أطفال تبتسم لهم تارة وتغضب تارة لشقاوتهم ..
واستغرقت فى احلامها فليست الأحلام بحساب ؛ و تذكرت يوما ما كانت صغيرة قبل ان تفقد البصر كيف أشفقت على الاسماك الصغيرة الملونه حبيسة الحوض الزجاجى فى بيت عمها .. كانت كائنات لا ذنب لها سوى انها ضعيفة لا تملك تحديد المصير؛ يومها حملت الحوض الزجاجى فى مشقة بالغة وسكبت الماء والاسماك الملونه فى الفسقية الكبيرة وابتسمت و هى ترى الاسماك تقفز و تسبح فى الفسقية الكبيرة و تعيش حريتها بعد ان تخبطت و اصطدمت فى جدار الحوض الزجاجى فى إحباط و إستسلام ؛ و ابتسمت بداخلها بعد ان نالت عقابا مريرا من عمها على فعلتها هذه؛ و فاقت من ذكرياتها البعيدة و استسلمت لنوم عميق وتحقق حُلمها فى منامها … ها هو فارس أحلامها تخلل أعماقها وسبح فى رأسها وظهر على شاشة قلبها .. تمسكت بالحلم وخشيت أن تستيقظ فتفقد لحظات لن تعيشها بعد الاستيقاظ..
أخذت تتلفت حولها ولم يؤرقها حينها شيء سوى الصقيع الشديد وملابسها الرقيقه فأخذت تصطك أسنانها وهى تحاول ان تفرك يديها عسى ان يسعفها بعض الدفء ؛ كان المكان من حولها تملؤه الزهور وسبحان من نسقها ولونها بهذا الجمال .. وسبحان من أعاد لها البصر لتراه .. . ها هو فارس أحلامها يرتدى معطفا سميكا يقف فى ثبات .. سألته بعينيها : ” من انت؟؟ ” و هى تعلم أنه فارسها ومعه العصا السحرية التى سيمررها على عينيها فيمحو كل هذا الظلام إلى الأبد، ويحررها من طغيان الليل كما حررت هى الاسماك ذات يوم. وظلت تنظر إليه بانبهار وقطرات الندى تبلل وجهها .. فإذا به يقترب و يضع على كتفيها شاله السميك فيحجب عنها الصقيع، فتوردت وجنتاها خجلاً و دفئاً وهى تسأله بألا يتركها، و لكنه توارى بعيداً .. بعيداً .. على وعد بأن يعود.